نقلا عن الوطن
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
يمسكون الشموع وقلوبهم تعد الدقائق منتظرين الحدث الأعظم في حياتهم، داخل أروقة أقدس كنيسة في العالم، تعالت أرواحهم لتسرح بخيالها إلى خارج تلك الأسوار التي تحد وجودهم، لترجع عصورًا وقرونًا للوراء، وتركز أذهانهم المشهد تحت خشبة الصليب، على ذاك الموضع حيث فتح المسيح- مخلِّصهم- ذراعيه لأحضانهم وثبَّتها بمسامير، ليعلن عن حبه بدمه العذب، تدمع أعينهم ويفيقهم ذاك النور المنتظر ليعودوا ثانية حيث يقفون، داخل كنيسة القيامة بالقدس.
قبل قرون طويلة، بُني هيكل وثني في موضع "الجلجلة" حيث صُلب المسيح، في محاولة لمسح كل ذكر للديانة اليهودية المثيرة للشغب والثورات، بعد القضاء على الثورة اليهودية عام 135م، إلا أن اليهود الذين تحوَّلوا للمسيحية حموا تاريخ وأفكار ومواضع الكنيسة، وفي عام 325 خلال عقد المجمع المسكوني الأول في نيقيا، دعا أسقف القدس الإمبراطور قسطنطين، لتدمير ذاك الهيكل الوثني للبحث عن قبر المسيح.
الهيكل الذي تأسس في الأصل لمحو موقع القبر، حافظ عليه طوال تلك السنوات، حتى هدمه قسطنطين، ولم يبقَّ شيء فوق الجلجلة، وبُنيت كنيسة في ذلك المكان في القرن الثامن، سُمِّيت بـ"كنيسة الجلجلة"، وبنى قسطنطين فوق القبر المقدس بمباشرة والدته الملكة القديسة هيلانة، كنيسة القيامة التي دشنت عام 335م.
أضرم الفرس النار بالكنيسة مع غزوهم للقدس عام 614، وسرقوا الصليب الحقيقي من الكنيسة، إلا أن الإمبراطور هرقل دخل القدس عام 629، وأعاد الصليب لكنيسة القبر المقدس، التي أعيد بناؤها على يد البطريرك مموديستوس، ومع الفتح الإسلامي لبيت المقدس عام 636، أعطى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الأمان لأهلها، ورغم العنف الذي كان يتعرَّض له المسيحيون في القدس، آمنت "العهدة العمرية" حقوقهم وحرية عقيدتهم، وفي زيارته لكنيسة القيامة، وعندما حان وقت الصلاة وهو بالكنيسة، ورغم دعوة البطريرك صفرونيوس أن يصلي أمير المؤمنين حيث كان، رفض واعتذر وصلى خارج الكنيسة، خشية أن يحولها المسلمون جامعًا من بعده.
ظلت كنيسة القبر المقدس تباشر عملها وخدمتها المسيحية، تحت حماية عمر بن الخطاب والخلفاء المسلمين الأوائل، حتى تبدل الوضع حينما دمر الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي، جميع كنائس القدس ومن ضمنها كنيسة القيامة، وهدم جدرانها وهاجم قبر المسيح، وتم هدم الجدران الشرقي والغربي كليًا، وتفاوض آنذاك الإمبراطور البيزنطي، قسطنطين التاسع، مفاوضات مع خلفاء الحاكم بأمر الله، لإبرام معاهدة سلام، أعطته الإذن لإعادة بناء الكنيسة عام 1048.
بعدها وتحديدًا عام 1099، استولى الصليبيون على القدس، وأعلنوا حماية القبر المقدس وكنيسته، وباشروا بترميم الكنيسة على الطراز الرومانسكي، وتم استبدال الهيكل الذي يحوي كنيسة كُرِّست عام 1149، وأضيف برج أجراس عام 1170، ليعود شكل الكنيسة الحالي إلى الترميمات التي قام بها الصليبيون، وعلى مدار سنوات طويلة بعدها، لحقت أضرار كثيرة بالكنيسة، ولم تنفع الترميمات التي لحقت بها، خاصة مع اندلاع حريق بها عام 1808، وتمت إعادة إعمارها بعدها بعامين، وأعيد بناء الهيكل الجديد على نفقة كنيسة الروم الأرثوذكس.
في عام 1959، اتفقت الثلاث طوائف –كنيسة الروم الأرثوذكس واللاتين والأرمن- على خطة ترميم رسمية، درَّبوا خلالها البنى المحليين على كيفية نقش وشذب حجارة المبنى المستدير الذي تعلوه القبة، على طراز القرن الحادي عشر، والكنيسة على طراز القرن الثاني عشر.
شجارات وقعت بين الثلاث طوائف، بسبب محاولات توسيع سيطرة كل منهم على الكنيسة، حتى أصدر الباب العالي –الإمبراطور العثماني- فرمان بتقسيم الكنيسة بينهم، وتم التأكيد عليه عام 1822، وبذلك أصبحت الثلاث طوائف حراس الكنيسة والقبر لمقدس، وتنظم بينهم اتفاقيات أوقات وأماكن العبادة لكل منهم.
عبر باب وحيد بالجزء الجنوبي للكنيسة، يكون سبيل الدخول لها، وتوجد مفاتيح الدخول للكنيسة بحوزة عائلتين مسلمتين، عائلة "نسيبة" وكَّلها صلاح الدين الأيوبي عام 1192، وعائلة "جودة" وكَّلتها السلطات العثمانية أن تساعد العائلة الأولى في فتح وإغلاق الباب الجنوبي بشكل يومي.
تحت القبة الكبرى بمركز الكنيسة، يقع القبر المقدس المزين بالشمعدانات الضخمة، وينقسم البناء من الداخل لغرفتين، خارجية عبارة عن دهليز يشار إلى أنها "كنيسة الملاك"، ومدخل صغير مغطى بالرخام هو الباب الحقيقي للقبر، وفي وسط الدهليز عمود قصير يحمي تحت الزجاج قطعة أصلية من الحجر الذي أغلق به القبر إثر موت المسيح، وعلى اليمين يوجد مقعد رخام هو الصخرة الأصلية التي وضع عليها جسد المسيح من مساء الجمعة وحتى صباح السبت.
خلف القبر المقدس، تقع كنيسة الأقباط التي كانت هيكلًا للرعية أيام الصليبين، وفي آخر الرواق مقابل هيكل القباط توجد كنيسة السريان الأرثوذكس، وتقبع كنيسة القربان الأقدس على يمين الناظر للقبر المقدس، وخلف العمدان توجد باحة كنيسة ودير الآباء الفرنسيسكان، وبداخل الرواق على يسار الخارج من الكنيسة، مغارة يقول التقليد القرن السابع إنهم سجنوا المسيح هناك ريثما أحضروا الصلبان استعدادًا لصلبه، وبجانب المغارة ثلاثة هياكل، كما توجد كنيسة القديسة هيلانة التي تحتوي عناصر هندسية بيزنطية.
ومن خلال سلم على اليمين، يوجد طريق يؤدي لمغارة الصلبان، حيث كان هذا المكان بئرًا مهجورًا من العصر الروماني، وتفيد إحدى الروايات القديمة أن الملكة هيلانة أمرت بالتنقيب في هذا المكان، بحثًا عن صليب المسيح، فوجدت الصلبان الثلاثة بهذا الموضع ومن بينها الصليب الذي صُلب عليه المسيح.