في الشعر يعبر الإنسان عن أسمي أفكاره وأعمق عواطفه ، ويطلق لخياله العنان للتعبير-في ايقاع شعري جميل-عن حبه وتعبده ، عن آلامه وأحزانه ، عن آماله وأحلامه . وكان يكون مدعاة للعجب لو أن الكتاب المقدس-الذي يعري قلب الإنسان ويكشف عن قلب الله من نحو الإنسان-كان يخلو من مثل هذا الشعر السامي الرائع.
والحقيقة هي أن الكتاب المقدس-وبخاصة العهد القديم-لمن أعظم الكتب الشعرية . ومع أن طبيعته الشعرية كثيراً ما اختفت في الترجمات المختلفة ، إلا أن الفصول الشعرية في الكتاب المقدس ، لا تعلن الله للإنسان فحسب ، بل تُعبر أيضاً عن محبة الإنسان وتعبده له .
أولاً-الشعر العبري : منذ نحو مائتي عام ، لم يكن معظم الشعر العبري في العهد القديم محل إهتمام ودراسة . فمع أن أسفاراً بجملتها مثل أيوب والمزامير والأمثال هي أسفار شعرية ، ولكن لأن الشعر العبري لم يكن يتقيد بالمقاطع والقوافي والبحور الشعرية في الكتابات الكلاسيكية ، ظلت طبيعة هذه الأسفار الشعرية خافية ، رغم أن أكثر من ثلث العهد القديم عبارة عن قصائد شعرية . فكثير من رسائل الأنبياء هي-في اصلها العبري-أشعار ، ليس فقط لتكون أكثر حيوية وجاذبية ، بل أيضا طويلاً في الذاكرة التي تحتفظ عادة بالشعر أكثر مما بالنثر ، وبخاصة في عصور كان الاعتماد علي الذاكرة أكثر مما علي الكتب المخطوطة ، التي لم تكن متاحة إلا للقلة القليلة . ونجد حتى في أسفار الشريعة والأسفار التاريخية ، الكثير من الفقرات الشعرية مثل قول لامك : "قتلت رجلا لجرحي ، وفتي لشدخي" ، إنه يُنتقم لقايين سبعة أضعاف ، وأما للامك فسبعة وسبعين" (تك 4 : 23 و 24) . وبركة يعقوب لأولاده (تك 49 : 2-27) . وأناشيد الانتصار التي تغني بها موسى ومريم (خر 15 : 1-21) . ونبوات بلعام (عد 23 : 7-10 و 18-24 ، 24 : 3-9 و 15-24) . ونشيد دبورة (قض 5) ، وصلاة شكر حنة أم صموئيل (1 صم 2 : 1-10) .
وفي 1753 م ، صدر أول وأعظم كتاب عن "الشعر في الكتاب المقدس" ، مما فتح عهداً جديداً لفهم الكثير من أقوال الكتاب الشعرية . فبعد دراسة دقيقة ، أعاد "روبرت لويث" (R.Lowth) اكتشاف أسس وقواعد الشعر العبري . ونشر ما وصل إليه في كتابه "الشعر العبري المقدس" ، وكان ذلك باعثاً علي أن يعكف الكثيرون علي دراسته ونشر أبحاثهم عنه .
ومما ساعد علي دراسة الشعر العبري ، اكتشاف الكثير من الكتابات الأدبية للعالم القديم في الأزمنة المعاصرة لأزمنة الكتاب المقدس ، من مصر وأشور وبابل وكنعان ، وهي تعطينا خلفية عن "ثقافة وفكر تلك العصور ، في البلاد التي كان لها احتكاك بشعب الكتاب المقدس . كما ساعد اكتشاف كتابات "أوغاريت" في رأس شمرا ، لحضارة شعب سامي ، تكاد تكون معاصرة لزمن موسى ، علي فهم أشعار الكتاب المقدس وتفسيرها . وشتان بين معني العبارة : "ها إن الرب لم تقصر عن أن تخلص" (إش 59 : 1) لو أخذناها علي أنها نثر ، وبين معناها باعتبارها خيالاً شعرياً .
وقد زودتنا ألواح "أوغاريت" الفخارية ، بمعلومات عن فقه اللغة ، ألقت الكثير من الضوء علي الكثير من التعبيرات الغامضة في الشعر الكتابي . فالمبدأ العام هو في شعر "أوغاريت" والشعر العبري ، وهو التوازن والمطابقة في الأفكار ، أي في المعني لا في المبني . كما اكتشف العلماء تشابهاً كبيراً بي ن أسلوب الملاحم الكنعانية وشعر العهد القديم سواء في الكلمات أو العبارات .
ثانياً-خواص الشعر العبري : إن أهم ما يميز الشعر العبري-كما سبق القول هو عدم التقيد بالمقاطع والقوافي والبحور الشعرية ، فلم يكن يحفل كثيراً بالمبني بل بالمعني ، فهو أقرب إلي الشعر المنثور . ونري ذلك في الأساليب الآتية :
1- التطابق في المعني بين الشطرين ، أي تكرار الفكرة بعبارة أخري مثل : "خلص يا رب لأنه قد انقرض التقي ، لأنه قد انقطع الأمناء من بني البشر" (مر 12 : 1) .
"يا رب في السموات رحمتك ، أمانتك إلي الغمام" (مز 36 : 5-فالأمانة تقابل الرحمة ، والغمام تقابل السموات-انظر مز 15 : 1 ، 24 : 1-3 ، 25 : 5 ، 1 صم 18 : 7 ، إش 6 : 4 ، 13 : 7 ..إلخ)
2- التناقض : وفيه يكون المعني في الشطر الثاني مناقضاً للمعني في الشطر الأول ، مثل : "مخافة الرب رأس الحكمة ، أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب" (أم 1 : 7) . "الابن الحكيم يسر أباه ، والابن الجاهل حزن أمه" (أم 10 : 1) .
و قد يكون هناك أكثر من وجه للمقارنة، كما في:" الرجل الظالم مكرهة الصديقان، و المستقيم الطريق مكرهه الشرير" (أم 29 : 27 _ انظر أيضاً 10 :5 ، 16 : 9 ، 27 : 2 ).
3- التوازي التركيبي أو البنائي : وفيه يضيف الشطر الثاني معني جديداً للشطر الأول ، أو يفسره ، مثل :
"وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب أمر الرب طاهر ينير العينين"
"خوف الرب نقي ثابت إلي الأبد أحكام الرب حق ، عادلة كلها "
"أشهي من الذهب والابريز الكثير وأحلي من العسل وقطر الشهاد" (مز 19 : 8-10) ومثل: "لأنه هوذا أعداؤك يا رب . هوذا أعداؤك يبيدون . يتبدد كل فاعلي الإثم" (مز 92 : 9) .
4-التوازي المتقاطع : وفيه يتقاطع ترتيب المعاني في أربعة شطور يتفق فيها الأول مع الرابع ، والثاني مع الثالث ، كما في : "
يا ابني إن كان قلبك حكيما يفرح قلبي أنا أيضا وتبتهج كليتاي ، إذا تكلمت شفتاك بالمستقيمات" (أم 23 : 15 و 16) .
ومثل : "إن نسيتك يا أورشليم ، تُنسي يمييني ، ليلتصق لساني بحنكي ، إن لم أذكرك" (مز 137 : 5 و 6) .
5- التوازن اللغوي : وفيه تتكرر كلمة أو أكثر من كلمة من الشطر الأول ، فيما يليم من شطور ، كما في : "الرب إله غيور ومنتقم ، الرب منتقم وذو سخط ، الرب منتقم من مبغضيه ، وحافظ غضبه علي أعدائه" (نا 1 : 2) (انظر أيضا قض 5 : 3 و 6 و 7 و 12 و 23 و 27 ، مز 72 : 17 ، 121 ، 124 ، 126 ، إش 2 : 7 ، هو 6 : 4 ..إلخ) .
6-التوازي المتصاعد : وفيه يكون الشطر الثاني مكملاً للشطر الأول ،
مثل : "قدموا للرب يا أبناء الله ، قدموا للرب مجداً وعزاً (مز 29 : 1)
"صوت الرب يزلزل البرية يزلزل الرب برية قادش" (مز 29 : .
"يمينك يا رب معتزة بالقدرة يمينك يا رب تحطم العدو" (خر 15 : 6)
7- التوازي الإيقاعي : أي يكون الشطران من وزن واحد ، كما في :
"يحمدك يا رب كل ملوك الأرض إذا سمعوا كلمات فمك" (مز 138 : 4)
(انظر أيضا أم 16 : 7 و 10 ، 17 : 13 و 15 ، 19 : 20 ، 21 : 23 و 25) .
8- التوازي الكامل : وهو أن يكون عدد الكلمات العبرية في الشطر الأول مساوياً لعددها في الشطر الثاني . أما إذا لم يتساويا ، فالتوازي غير كامل .
كما أن الشعر العبري يستخدم بعض الأساليب البلاغية، التى تظهر في النص العبري، و لكنها لا تظهر في الترجمات ، مثل :
(أ) الجناس ، كما في المزامير (6 : 8 ، 27 : 17) .
(ب) السجع ، كما في التكوين (49 : 7) ، والخروج (14 : 14) ، والتثنية (3 : 2) .
(جـ) القافية ، كما في التكوين (4 : 23) ، أيوب (10 : 8-11 ، 16 : 12) .
(د) بدء أبيات متتالية بنفس الحرف ، كما في المزامير التاسع ، والرابع والثلاثين ، السابع والثلاثين والإصحاحات الأربعة الأولي من سفر مراثى إرميا . وأكبر مثال لذلك هو المزمور المئة والتاسع عشر ، حيث يتكون المزمور من اثنتين وعشرين مقطوعة ، كل مقطوعة من ثماني آيات ، تبدأ كل آية من المقطوعة بنفس الحرف الأبجدي العبري . والمقطوعات مرتبة بحسب ترتيب الحروف الأبجدية العبرية التي تبدأ بها أبياتها .
والشعر العبري منه القصصي والعاطفي والتعليمي والدرامي ، وأكبر مثال للشعر الدرامي هو سفر أيوب . والقصصي كما في الأصحاح الخامس من سفر القضاة ، وكما في المزامير التاسع والسبعين والمائة والخامس والمائة والسادس . أما العاطفي فكما في المزمور الخامس والأربعين ، ونشيد الأنشاد . والتعليمي كما في المزمور المئة والتاسع عشر ، وسفر الأمثال .