" فليكن فيكم هذا الفكر الذي
في المسيح يسوع أيضاً ، الذي إذ
كان في صورة الله لم يحسب خلسة
أن يكون معادلاً لله .
لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة
عبد ، صائراً في شبة الناس . وإذ
وجد في الهيئة كإنسان وضع
نفسه وأطاع حتى الموت ، موت
الصليب " .
( فى2 : 5 ـ 8 ) .
إن السيد الرب ، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب ، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر .
ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية ... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته ... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية ، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا ...
وعلينا أن نفهم بالدقة : ما هو معني إخلاء الذات ...
إنه لم يخلها طبعاً من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين . بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء . وسنشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة ...
جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالاً من شأن الرب ، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها . كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية . أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد ، فلم يكن أحد يتصورها . هذه قدمها الرب لنا ...
عجيب هو الرب في إتضاعه ، عندما أخلي ذاته في ميلاده .
· نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة ، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد ... لم يحدد من قبل موعد مجيئه .
· وهكذا ولد في يوم مجهول ، لم تستعد له الأرض ولا السماء ، ولم يستقلبه فيه أحد . يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم ، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب .
ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته ، على سحابة عظيمة ، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم ... وقد إرتجت له السموات وكل قوي الطبيعة ... أو لو أن السماء إحتفلت بميلاده ، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس ، بل إهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها ... لو حدث ذلك ، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده ... !
لو أن شخصاً كان مسافراً إلى مكان ، لأرسل الرسائل قبلها ، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون ، وربما يستاء إذا قصر أحد في إنتظاره أو في إستقباله ....
أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت ، بعيداً عن كل مظاهر الترحيب ، في ضجيج ، وبطريقة بسيطة هادئة ... دخل بنكران عجيب للذات ، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين إستقبلوه جماعة من الرعاة المساكين ، ثم المجوس ...
· هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولها وفي خروجهم ، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد ...
لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب ، بل في كل ظروف ميلاده . فكيف كان ذلك ؟
· ولد من أم فقيرة يتيمة ، لم تكن تجد من يعولها . عهد بها الكهنة إلى يوسف ، خطبوها له لتعيش في كفنه .
وولد في قرية هي : " الصغري بين رؤساء يهوذا " ( مت2 : 6 ) .
وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شئ صالح ( يو1 : 46 ) . ودعي ناصرياً .
وعاش في بيت نجار بسيط ، حتى كانوا يعيرونه قائلين : " أليس هذا هو إبن النجار " ( مت13 : 5 ) .
وعاش ثلاثين سنة مجهولاً ، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ . حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئاً تقريباً ... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد ، مخفياً لا يعرف عنه أحد شيئاً ، كأي شخص عادي ... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته ، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملاً ...
· أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر .
قضي فترة كرضيع وكطفل . ولم يستح من ضعف الطفولة ... بما فيها من إحتياج إلى معونة آخرين ، وهو معين الكل !
إحتياج إلى رعاية أم ، وهو راعي الرعاة ! إحتياج إلى إمراة من صنع يديه ، تحمله على يديها ، وتهتم به ، وهو المهتم بكل أحد . وتغذيه ، وتعطيه ليأكل ويشرب !
ومن العجيب في طفولته ، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته . فهرب من امام هيرودس ، بينما روح هيردوس في يده ! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس ، وأبقاه حتى ذلك اليوم . عجيب هذا الأمر ..عجيب أن نري القوي القادر على كل شئ يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق ! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت ... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات . ولم يرجع إلا بعد أن هذا الجو ، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه ...
أخلي ذاته ، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف . وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام ، كسائر البشر ...
عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يوماً : " جاع أخيراً " ( مت4 : 2 ) . وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية : " أعطيني لأشرب " ( يو4 : 7 ) ، ويقول على الصليب : " أنا عطشان " ( يو19 : 28 ) . وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البشر ( يو4 : 6 ) وإنه نام في السفينة ( لو8 : 23 ) .
· أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء ، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون . وكأنه يقول لكل هؤلاء : إنني لم أولد في قصر ملك ، ولا على سرير من حرير ، وإنما في مزود للبهائم . ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك ... سياتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاريها ليتباركوا منه .
ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان ، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان . والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل .
فليحل الرب في أي مكان ، ولو كان مكاناً للبهائم ، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغري في يهوذا . ولكنه سيرفع من شأن كل هذا ... يولد في هذه الحقارة إلى مجد . يولد من فتاة فقيرة ، ويجعلها أعظم نساء العالم ... ويولد في بيت رجل نجار بسيط ، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة ...
أخلي ذاته من صفة الملك :
كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك . ولو أتي كذلك ، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك . فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة ، ومن نسل داود الملك .
ولكنه أخلى ذاته من الملك ، وهو ملك الملوك ( رؤ17 : 14 ) ...
لم يأت في هيئة ملك . لأن اليهود في في تفاخرون بالعظمة البشرية ، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم ، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أياً . فلم يخلصهم بعظمة الملوك ، بل بتواضع النجار الناصري ، الذي إستهانوا به قائلين : " أليس هذا هو النجار إبن مريم ؟! " ( مر6 : 3 ) . أتي كنجار بسيط ، ولم يأت كملك . ولما سعي إليه الملك ، رفضه وهرب منه . ولما " رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً ، إنصرف إلى الجبل وحده " ( يو6 : 15 ) .
ورضي أن يحاكم أمام عبيده ، أمام بيلاطس وهيرودس ، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم ... وكان يقول : " مملكتي ليست من هذا العالم " ( يو18 : 36 ) .
أخلي ذاته من صولجان الملك ومن الكرامة المقدمة للملوك ، مفضلاً أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه ، وليست الخائفة من سطوه سلطانه ...
أخلي ذاته من كرامة الرئاسة :
لم يطلب أن يكون رئيساً لتابعيه ، أو سيداً ... وإنما صديقاً لهم . وهكذا قال لتلاميذه : " لا أعود أسميكم عبيداً ... لكني سميتكم أحباء " ( يو15 : 15 ) . وخاطبهم في إحدى المرات قائلاً : " أقول لم يا أصدقائي ... " ( لو12 : 4 ) .
وأخلي ذاته لدرجة أنه إنحني وغسل أرجلهم ...
لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه ... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة . إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان ... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم ، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيساً للناس بل صديقاً .
لذلك كان محبوباً لا مخافة . يهابه الناس عن توقير ، لا عن رعب . لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس ، بل الحب الذي يجذب الناس . وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله ، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره .
إن كل من يحب العظمة ، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد .
قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده : [ يا أولادى ، أنا لا أخاف الله ] . فأجابوه : [ هذا الكلام صعب يا أبانا ] . فقال لهم : [ ذلك لأني أحبه . والمحبة تطرح الخوف إلى خارج ] ( 1يو4 : 18 ) .
إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة . يريدون أن يخافهم الناس ، ولو عن قهر . أما المسيح إلهنا فيقول : " من يحبني يحفظ وصاياي " . يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف ...
أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى .
لم يستخدم قوته من أجل ذته ، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم . رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي ، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس .
لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات ، ولا من أجل الإيمان . وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل ( الفرجة ) لم يكن يقبل . بل كان يبكتهم قائلاً : " جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له ... " ( مت12 : 39 ) . لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر ، ومثلما فعلت عرفاه فيلبي ، ومثلما سيحدث في لأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين ...
رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل ، لتحمله الملائكة .
ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته ! ... رفض ذلك أخلي ذاته من إعجاب الناس . إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد ، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد .
ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير ، لم يشأ أن يراها كل الشعب ، ولا حتي كل تلاميذه الإثني عشر ، بل رآها ثلاثة فقط ، وأوصاهم ألا يظهروها ... كان زاهداً في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم ... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه ... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها ...
وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات . أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والإقتناع وليس بسبب المعجزات . وما الدليل على هذا ؟
دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة ، وليس كنتيجة لها . وكثيراً ما كان يسال الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن ؟ " ، أو يقول له : " ليكن لك حسب إيمانك " . وإن كان يؤمن قبلاً تحدث معه المعجزة ... ولذلك قيل عنه إنه في وطنة : " لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم " ( مت13 : 58 ) . كان الإيمان يسبق المعجزة . وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سبباً .
وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية ... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحاً وجلياً ... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه . إن الحب الذي كان يعتصر قلبه ، ظهر أولاً في عينيه الدامعتين ، قبل أن تظهر قوته في عبارة : " هلم خارجاً " . وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة : " فتحنن يسوع " أو " أشفق " أو ما شابه ذلك ...
ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه ، أو في اٌلإنتقام من مضطهديه وشاتميه . أهانوه بكل أنواع الإهانة ، وأشبعوه شتماً وتعييراً . وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم ، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم . ولكنه لم يفعل . كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه .
وعاش بغير لقب وبغير وظيفة :
· عاش السيد المسيح بغير لقب ، وبغير وظيفة رسيمة في المجتمع ، وبغير اختصاصات في نظر الناس ...
· ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي ، أو في نظر الدولة ؟! لا شئ .. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر ، يعمل ويعلم ، دون أن يتسند إلى وضع رسمي ...
· لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس ، لأنه لم يكن من سبط لاوى ولا من أبناء هارون الناحية ، أنه عندما شفي الرجل الأبرص ، قال له : " إذهب أر نفسك للكاهن ، وقدم القربان الذي أمر به موسى " ( مت 8 : 4 ) . يا لها من عبارة مؤثرة للغاية !! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم ، منشئ الكهنوت ومؤسسه ، ومنع كل سلطة كهنوتيه ، يقول للأبرص : " إذهب أر نفسك للكاهن " !! ...
وماذا عنك أنت يارب ن أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق ؟ لماذا ترسلني إلى كاهن ، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة ؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك ! تتصرف كمن لا سلطة له ، وأنت مصدر كل سلطة !!
· وعاش السيد المسيح بدون أي مركز إجتماعي ، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق . حتى في وضعه كمعلم ... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين ، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة ( أر18 : 18 ) ، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع ...
· وعلى الرغم من كل ذلك ، ملأ الدنيا تعليماً ، وكانوا يلقبونه بالمعلم ، والمعلم الصالح ، ودعي معلماً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين ...
وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب ، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب ! ...
وفي حياته كمعلم ، عاش وقد أخلي ذاته من كل شئ .
لم يكن له مكان يعلم فيه ...
أحياناً كان يعلم وهو جالس على الجبل ، وأحياناً يكلم الناس وهو واقف في سفينة وهم جلوس على الشاطئ ... وأحياناً كان يعلم وهو في وسط الزروع والبساتين ، يتأمل مع تلاميذه زنابق الحقل وطيور السماء ... وأحياناً كان يعلم في الخلاء ، في موضع قفر ، في البرية . وأحياناً في الطريق ... وعلى العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم ، لا مركز ثابت ... بل لم يكن له أين يسند رأسه ( لو9 : 58 ) .
وإذ أخلي ذاته من الإرتباط بمكان معين ، عمل في كل مكان ...
عجيب أن الله الذي ملأ السموات والأرض ، لم يكن له أين يسند رأسه ...
عندما ولد يقول الكتاب : " لم يكن له موضع في البيت " ( لو2 : 7 ) . وطول فترة تجسده على الأرض لم يكن له مسكن معين . يذهب أحياناً إلى بيت سمعان ، وأحياناً إلى بستان جثماني ... ما أعجب قول الكتاب : " ومضي كل واحد إلى بيته ، أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون "
( يو8 : 1 ) ...
والذين كانوا يتبعونه ، كانوا يسيرون وراء المجهول ... لا يعرفون لهم موضعاً ولا مركزاً ، ولا مالية معينة ، ولا عملاً محدوداً . عندما قال السيد لمتي الللاوى : " إتبعني " ، تبعه متى ... ولو سألته : " إلى أين ؟ " لما عرف كيف يجيب ... ولو سألته ماذا ستعمل ؟ لوقف أمام علامة إستفهام لا جواب لها . لقد أراد الرب لتلاميذه أن يخلوا ذواتهم أيضاً ... هم مجرد تلاميذ ، لا يعرفون لهم عملاً سوي أن يتبعوا المسيح ، الذي لا يعرفون له وظيفة ولا عملاً رسمياً ولا مكاناً ثابتاً ...
يحيط به جماعة من المساكين :
وكما أخلي المسيح ذاته ، أحبه الذين أخلوا ذواتهم ، أو الذين لا ذوات لهم . فأحاطت به مجموعة من الفقرا والمساكين والمزدري وغير الموجود ... جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم ( 1كو1 : 27 ، 28 ) . وهكذا إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار واحداً من العشارين المرذولين .
والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب : الأطفال الذين لا يعتد بهم أحد والخطاة والعشارون الذين يحتقرهم الناس ، والنساء أيضاً اللائى لم تكن لهن مكانه في المتجمع اليهودي ... وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه ( لو23 : 27 ) ... وحول صليبه وقفت النسوة لا شيوخ الشعب ... وبكت عليه بنات أورشليم ( لو22 : 28 ) ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم !
عاش إنساناً بسيطاً بلا مركز وبلا لقب ، يحيط به أشخاص مجهولان بلا مركز وبلا لقب أيضاً
وحتى لقبه الطبيعي " إبن الله " ، لم يستخدمه كثيراً . وكان يستبدله في غالب الأحيان بلقب " إبن الإنسان " ! ...
عاش وسط الشعب ، لا وسط الرؤساء .؟ وكان قريباً من الصغار ، بعيداً عن الكبار والمعتبرين ، يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء ... وحسناً تنبأ عنه داود قائلاً : " الأغراء قاموا على " ( مز54 : 3 ) " الرؤساء إضطهدوني بلا سبب " ( مز119 : 161 ) .
حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي ، ولم يدخل بيت بيلاطس ولا بيت هيرودس ودخل بيت زكا ، ولم يدخل بيت حنان ولا بيت قيافا ...
عاش فقيراً ...
أخلي ذاته من المال والجاه ، فعاش فقيراً لا يملك شيئاً وهو مغني الكل . حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم ، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم ( مت15 : 27 ) .
وعاش مرفوضاً .
إلى خاصته جاء ، وخاصته لم تقبله ( يو1 : 11 ) كنور أشرق في الظلمة ، والظلمة لم تدركه ( يو1 : 5 ) ، بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور ... ( يو3 : 19 ) .
وأصبح الإتصال به تهمة ، والتلمذه له عاراً ...
حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته ، قابله في الخفاء ، سراً وليلاً ( يو3 : 2 ) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه ، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك ( يو9 : 28 ) وهكذا أصبحت التلمذة لذلك الناصري من أنواع السب ووصمة عار . وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها ، خوفاً من مسيه انتسابهم لذاك الناصري ... وهكذا وجدنا عملاقاً عظيماً كبطرس تبرأ من المسيح ومن الأنساب إليه ، وأخذ لعن ويحلف قائلاً إنه لا يعرف الرجل ( مز14 : 71 ) .
وعاش مضطهداً في حياته .
إن السيد الرب لم يخل ذاته فقط من المجد اللائق أن يحيط بلاهوته ، بل أخلي ذاته حتى من مجد البشرية أيضاً ، فكان محتقراً ومخذولاً من الناس ، رجل أوجاع ومختبر الحزن ... محتقراً فلم يعتد به ( إش53 : 2 ، 3 ) .
امسكوه مرة حجارة ليرجموه ( يو10 : 31 ) . ومرة أخري : " أخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل ( لو4 : 29 ) ... وطاردوه في كا مكان ، محاولين أن يصطادوه بكلمة ... ولم تكن له كرامه في وطنه .
وتقبل كل هذه الإهانات الكثيرة وهو الذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ...
قالوا له إنك سامري وبك شيطان ! وقالوا عنه إنه أكول وشريب خمر ، ومجدف ، وضال ، وما . قالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت ، وإنه ببعلزبول يخرج الشياطين . فبماذا الأشرار . بذلت ظهرك للسياط وخذيك أهملت للطم " ...
كيف أن هذا الذي تجثوا أمامه كل ركبه مما في السماء وما على الأرض ، الذي ليست السموات طاهرة قدامه ، كيف أنه : " لم يرد وجهه عن خزي البصاق " ؟! الجواب الوحيد أنه أخلي ذاته
وهكذا ضربوه ولطموه ... ما أعجبه في إخلائه لذاته ! يصل الأمر بخالق السماء والأرض أن يسمح لإنسان من تراب أن يصفه على وجهه ، ويقبل على وجهه ، ويقبل ذلك ويسكت ! ... " ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه . كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها ، فلم يفتح فاه " ( إش53 : 7 ) .
ووصلت الإستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانه بإله الكل إلى أن أصبح ثمنه ثلاثين من الفضة ، ثمن عبد !!
إنه لم يأخذ فقط شكل العبد ، وإنما بيع أيضاً بثمن عبد .. إستغل الناس إخلاءه لذاته ... فلم يمتنع عن إخلاء ذاته ، من أجل الناس .
وكما عاش مضطهدا في حياته ، عاش مضطهداً بعد مماته أيضاً . فحتى قبره كانت تحرسه الجنود المدججة بالسلاح ، خائفين أن ( ذلك المضل !! ) يقوم "فتكون الضلالة الأخيره أشر من الأولي " ( مت27 : 63 ، 64 ) . وهكذا ختموا القبر بالأختام ، وضبطوه بالحراس ...
وهكذا لاحقوا بالشتائم بعد موته . وادعوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه . ودفعوا في سبيل ذلك ما دفعوه من رشوة ...
جرأة الشيطان عليه .
عبارة " أخلي ذاته " لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب ، بل صاحبه طوال حياته على الأرض في الجسد ...
ومن أجل أنه أخلي ذاته ، تجرأ الشيطان ليجربه .
ووصل الرب في إخلائه لذاته ، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان ، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة ... ما أشد على النفس قول الكتاب : " ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة ، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضاً " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جداً " ( مت4 : 5 ، 8 ) .
إبليس " يأخذخ " " ويوقفه " حيثما يشاء !! يا للهول ! ...
ما أشد هذا الإخلاء للذات ... من يحتمله ؟!
وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة ، يقول عنه الكتاب أن الشيطان : " أراه " جميع ممالك الأرض ومجدها !! ... " أراه " ؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات ، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب ...
وهذه الممالك ، التي كلها من صنعه ، وكلها له ، والتي بيده بقاؤها وإنحلالها ، يقول له الشيطان : " لك أعطي هذه جميعها " ... وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له : ط إن خررت وسجدت لي " !! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة ؟!
ما أعجبك يارب ! من يقدر على مثل هذا الإخلاء ؟!
وأخيراً
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته ... الأمثلة عديدة ، لا تحصي ... وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم ، أتركها حالياً لتأملاتك الخاصة ....