كل الأقوال تحتاج إلى تفسيرها تفسيراً صحيحاً، من الناقل أو القاريء ، و الدليل على ذلك سؤال فيلبس للخصى الحبشى:"ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟"(أع30:8). فلا تكفى القراءة، بل يجب فهم ما يقرأ.
وكلمة "يفسر"تعنى: يوضح، يشرح، يبين أو يترجم من لغة أجنبية إلى لغة معروفة عند القارى(انظر يو38:1و 42، 9 :7).
وقد أعطى الرب ليوسف موهبة تفسير الأحلام فى مصر(تك12:40،8:41-15). وكذلك أعطى هذه الموهبة لدانيال فى بابل(دانيال2، 4، 7: 16)، كما أعطاه قراءة الكتابة الغامضة وتفسيرها(دانيال5). والرب يسوع نفسه"فسر" لتلاميذه بعض الأمثلة(مت18:13-23،37 -43)، و"فسَّر" لتلميذى عمواس"الأمور المختصة به فى جميع الكتب"(لو27:24).
وهناك فارق كبير يلزم إدراكه-بين الوحى والتفسير، فالوحى يتعلق بطبيعة الكتاب المقدس ومصداقيته لأنه كلمة الله المكتوبة(2تى16:3). أما التفسير فيتعلق بمعنى هذه الكلمة المكتوبة. وعليه فمن الممكن جداً أن يتفق الكثيرون على الأمر الأول، ولكنهم قد يختلفون كثيراً على الأمر الثانى. فقد يتفق شخصان على أن الأصحاح الأول من سفر التكوين هو سجل جدير بكل ثقة، ولكنهما قد يختلفان فى تفسير معنى كلمة"يوم" التى تكررت مراراً فى هذا الأصحاح.
وفى القرون الأولى من تاريخ الكنيسة، ظهرت مدرستان رئيسيتان للتفسير، إحدهما فى الاسكندرية(فى مصر)، والأخرى فى أنطاكية(فى سورية). ونستطيع أن نوجز الفرق بين المدرستين فيما يلى:
(1)-كانت مدرسة الأسكندرية تنحو نحو الرمزية، بينما كانت مدرسة أنطاكية تتمسك أكثر بالتفسير الحرفى للنصوص.
(2)-كانت مدرسة أنطاكية تهتم كثيراً بدراسة أى نص فى قرينته المباشرة وغير المباشرة، بينما لم تكن مدرسة الاسكندرية تحفل بذلك كثيراً.
(3)-كانت مدرسة الاسكندرية تعتمد كثيراً على التقاليد الكنسية فى تفسير الكتاب المقدس، أكثر من اعتماد مدرسة أنطاكية التى كانت ترى أن الكتاب المقدس يفسر نفسه.
(4)-فيما يختص بوحى الكتاب المقدس، كانت مدرسة الاسكندرية تشدد على الجانب الخارق، وأن الكاتب كان فى شبه غيبوبة والروح القدس يملى عليه. بينما كانت مدرسة أنطاكية تؤكد على وعى الكاتب، وأن الروح القدس شحذ بصيرته، وعمل فيه دون أن يلغى شخصيته.
ومفسر الكتاب أشبه بعامل عليه أن يفصل كلمة الحق بالاستقامة، وهو فى ذلك فى حاجة إلى أمرين: بصيرة روحية وأدوات جيدة. والبصيرة الروحية يهبها الروح القدس للمؤمنين(يو 26:14 ، 1 كو10:2- 13 ، 1يو 27:2 مع أف17:1). أما الأدوات الجيدة، فرغم التفاوت فى الحاجة إليها، فهى:
(1)-حدد المعنى فى اللغة الأصلية لأى عبارة، وهذا يستلزم المعرفة باللغات العبرية والأرامية واليونانية، فإذا لم يتوفر ذلك للمفسر، فعليه أن يستعين بأفضل ترجمات الكتاب المقدس المتاجة له. كما أن عليه أن يعرف الهدف من كتابة السفر، والظروف التاريخية التى أدت إلى كتابته. ففى العهد القديم، ارتبط بنو إسرائيل -بسبب أو بآخر-بالمصريين والأشوريين والبابليين والفرس وغيرهم من الشعوب والممالك. وفى العهد الجديد نشأت الكنيسة فى بيئة يهودية ثم امتدت وانتشرت فى العالم اليونانى الرومانى. ولغات الكتاب المقدسة تعكس هذه الثقافات المختلفة. فيجب أن يكون المفسر على دراية ووعى باستخدام الكلمات فىقرائنها المختلفة.
(2)-فسر الكلمات فى أي آية أو فقرة فى قرينتها المباشرة، فالقرينة هى الحكم النهائى فى تحديد معنى الكلمة. فالقاموس قد يعطيك جملة من المعانى، ولكن القرينة هى التى تساعد على تضييق مجال الاختيار وتحديد المعنى، كما يجب أن تؤخذ فى الاعتبار قرينة الكتاب ككل، فمبدأ وحدة الكتاب يجب أن يصحح التفسيرات المنعزلة، ويحمى الأفكار المبتسرة المبنية على معلومات محدودة.
(3)-اعرف الأسلوب الأدبى للجزء موضوع الدراسة، هل يؤخذ بألفاظه أو أنه فى صورة مجازية؟ هل هو سرد لأحداث، أم هو حوار أو مادة تعليمية الهدف منها توصيل فكرة معينة؟ وهذا يستلزم بعض المعرفة بالعوائد المألوفة فى ثقافات مختلفة، وبالمصطلحات المستخدمة فى التعبير عن مختلف الأفكار.
وكثيرا ما لا تكون هناك صعوبة فى تمييز هذه الأمور، فمثلا أمثال الرب يسوع تعتبر تصويراً لأفكار فى لغة مجازية لتوضيح مفاهيم معينة.
(4)-فسر الكتاب المقدس فى ضوء مبدأ الإعلان المتدرج، وهذا معناه أن الله أعلن مقاصده بالتدريج، ولم يعلنها مرة واحدة. وكان ذلك للتدرج فى تنفيذ خطة الله (انظر عب1:1و2)، كما بسبب عدم استعداد الإنسان لقبول وفهم الرسالة(انظرمت21:5و22،يو12:16).
(5)-فسر عبارات الكتاب فيما يختص بالعالم الطبيعى، بحسب ظواهره المألوفة وليس بالعبارات العلمية الفنية، لكن هذا لا يعنى أن عبارات الكتاب خاطئة أو غير صحيحة، فالكتاب المقدس لا يضع نظريات علمية للطبيعة، ولكنه يقرر الحقائق فى عبارات مالوفة عند الناس، كما فى القول:"الشمس تشرق، والشمس تغرب"(جا5:1،مت45:5).أو الكلام عن"أربعة أطراف الأرض"(أش12:11)، وهى عبارات مازلنا نستخدمها إلى اليوم ، رغم أنها تعوزها الدقة العلمية. كما يقول الجامعة:"كل الأنهار تجرى إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذى جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة"(جا7:1)، مصوراً لدورة المياه فى الطبيعة، حيث تتبخر المياه من البحار ثم تتكثف وتسقط مطراً يزود الأنهار بالمياه التى تجرى إلى البحر وهكذا. ويبنى كاتب سفر الجامعة كل أقواله على مشاهداته فى الحياة والظروف الطبيعية. إذ تسير فى حلقات مفرغة لا شبع فيها، ولكن نجد حل هذه الألغاز فى قوله فى ختام السفر:"ولنستمع ختام الأمر كله: اتق الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الأنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفى، أن كان خيراً أو شراً(جا13:12و14).
وبالرجوع إلى موضوع الأساليب الأدبية المختلفة، نرى أن تمييزها وتفسيرها يستلزمان إحاطة المفسر ببعض الأمور التى يمكن ايجازها فى الآتى:
(1)-حقيقة حرفية: كما فى رواية أحداث كما وقعت، وهذه يجب تفسيرها بمعناها البسيط الواضح(كما فى يو35:1-42).
(2)-حقائق موجزة: لإبراز نقطة معينة(انظرلو44:24-53مع أعمال1:1-11). فنعلم مما جاء فى سفر أعمال الرسل أنه كانت هناك أربعون يوماً ما بين القيامة والصعود،و هو الأمر الذى لم يذكر فى نهاية إنجيل لوقا.
(3)-الاستعارات: والاستعارة هى استعمال كلمة بدل أخرى لعلاقة المشابهة مع القرينة الدالة على هذا الاستعمال(انظرمثلاً رو20:9و21مع تك7:2) حيث يستخدم كلمة"خزاف" للدالة على الله الذى جبل الإنسان من تراب الأرض.
(4)-الأمثال: والمثل قصة مستمدة من واقع الحياة، تستخدم لتوضيح فكرة معينة أو مفهوم معين. وكثيراً ما استخدم الرب يسوع الأمثال فى تعليمه. فمثلاً عندما سئل:"من هو قريبى؟ (لو29:10)، ذكر مثل "السامرى الصالح"، فكان فيه الرد الواضح القاطع(انظر أيضاً مت24:13-30و36-43..الخ).
(5)-الرموز: ولها دور هام فى الكتاب المقدس، وبخاصة فى الكتابات الرؤوية(انظر مثلاً دانيال2:7-17،رؤ12:1و16و20)، وفى النبوات(انظر مثلاً حز15:37-28). وتمتلى خيمة الاجتماع بالرموز(أع44:7،عب5:8). وكان آدم من بعض الوجوه رمزاً للمسيح(رو 14:5). ورحلة الشعب القديم فى البرية تعتبر"مثالاً، وكتبت لإنذارنا نحن"(1كو6:10-11). ويستخدم الرسول بولس سارة وهاجر رمزين لعهد النعمة، عهد الحرية، وعهد الناموس الوالد للعبودية(غل21:4-31).
كما استخدم يوثام بن جدعون قصة خرافية لتوضيح موقف أهل شكيم(قض7:9-21).
وهكذا نرى أن من ينبرى لتفسير الكتاب المقدس، تلزمه بصيرة روحية نفَاذة لفهم ما يقرأ، وجهد مخلص فى الدراسة، على أن يؤول كل ما يحصله إلى مجد الله وإثراء حياة المؤمنين فى المسيح.
وبالايجاز يلزم لدارس الكتاب المقدس(1)-أن يقرأ الفصل بروح الصلاة، طالـباً من الله حــــكمة خاصة.(2)-أن يدرس بتدقيق القرائن المباشرة وما يحيط بها.(3)-أن يرجع إلى الفصول المشابهة فى كلمة الله، إذ يجب مقارنة الروحيات بالروحيات(1كو13:2).(4)-أن يستعين بكل ما يحتاج له من معلومات لاهوتية وتاريخية وأركيولوجية(أثرية)ونفسية واجتماعية، لها علاقة بما يدرسه أو يريــــد تفسيره.(5)-أن يختار التفسير الذى يرى أنه فى اتساق تام مع سائر أجزاء الكتاب المقدس.(6)-أن يكون على استعداد لانتظار نور أوضح، فلا يتسرع فى الوصول إلى نتيجة أو القطع برأى.