. ثورة هيرودس
تكرّر اسم
هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق
القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك
أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس
هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق
المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم
أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا
لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر
وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم
أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا
يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.
مات
هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي
يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة،
وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى
لم يقدر أحد أن يقترب إليه.
هذه
الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس
ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة
يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم
من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن
الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون
الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة،
أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها
الرياح[86].] ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة[87].]
اضطرب
هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة
قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس
(الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا
تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.
أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ
دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى
بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني،
لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له" [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان
شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في
الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة[88].]
3. سجود المجوس
"فلما سمعوا من الملك ذهبوا،
وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم
حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.
فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا.
وأتوا إلى البيت،
ورأوا الصبي مع مريم أمه،
فخّروا وسجدوا له،
ثم فتحوا كنوزهم،
وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا" [9-11].
إذ تركوا
الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح
مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل
إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن
النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء
والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه
غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!... هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة
خبز![89]]
برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل
رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد
السجود فحلّ الهدوء والأمان... لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ
نراهم يقدّمون هدايا[90].]
ماذا تعني هدايا المجوس؟
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى
قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا[91].]
ويقول الأب غريغوريوس الكبير:
[يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في
تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له
بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت... لنُقدّم
للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور
إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ،
مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في
جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة
كما يشهد سليمان: "كنز مشتهى في فم البار" (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة) والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: "يداي تقطران مرًا" (نش 5:5). إننا نقدّم للملك
الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له
بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا
السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات)
الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد
بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، "تعفّنت الحيوانات في روثها[92]".
الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم
وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد
الخلاعة ويحفظ في الطهارة[93].]
4. انصراف المجوس
"ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس،
انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" [2].
في بساطة
الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل.
بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا
يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد
المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير[94] إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة[95].]
في مرارة
أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم
السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل
تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له
بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها
الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم
وخضوعهم لإبليس، وكأنه - إن صح هذا التعبير - يسلّمون مسيحهم الداخلي
لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة
يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: "من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو
ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من
داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟"
(عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم
يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية - إن صح التعبير - ويشهّر به
بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.