كيف تهرب من محبة المديح والكرامة وأيضا من محبة الرئاسة؟..
من سلسلة تأملات : حياة التواضع والوداعة
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
إن هروبك من محبة المديح والكرامة والرئاسة يستدعي الآتي:
1- ينبغي أن تعرف أن المجد الذي تأخذه من الناس هو مجد زائف.
وربما يكون عن جهل,لأن الذين يمدحونك لايعرفون حقيقتك لأنهم يحكمون حسب الظاهر لا يقرأون أفكارك ولايعرفون مشاعرك وإحساساتك الداخلية ولاخطاياك الخفية وسقطاتك.. وبعض الناس قد يمدح علي سبيل المجاملة أو بسبب التشجيع, والبعض يمدح بسبب أدبه الخاص أو بسبب التملق أو لغرض معين في نفسه.. ومديح الناس قد يضر الكثيرين ويضللهم ويبعدهم عن معرفة النفس وعن تقويمها.
والمسكين الذي يحب المديح يهمه أن يمدح كيفما كان الأمر, ويلذ له أن يصدق كل ما يقال فيه خير,سواء عن حق أو عن باطل!
2- أما أنت فاعرف أن مديح الناس لايوصلك إلي ملكوت الله.
لأن الله هو فاحص القلوب والكليرؤ2:23وهو العارف الخبايا والأسرار وفي حكمه عليك لايعتمد علي كلام الناس عنك.
لذلك ينبغي لك أن تصادق من يوجهك ويوبخك.. أما إذا مدحك الناس فتذكر خطاياك ونقائصك واعترافاتك التي تخجلك والأخطاء البشعة التي وقعت فيها في حياتك وبذلك يخف عليك ألم المديح.
3- قل لنفسك:أنا مازلت سائرا في الطريق ولا أعرف كيف سأنتهي؟
والكتاب يقول:انظروا إلي نهاية سيرتهمعب13:7فكثيرون بدأوا بالروح وكملوا بالجسدغل3:3والكتاب يقول أيضامن يظن أنه قائم فلينظر أن لايسقط1كو10:12وما أكثر حروب الشيطان وما أشد حيله وخداعه ومكره فاحفظني يارب لأنالخطية طرحت كثيرين جرحي وكل قتلاها أقوياءأم7:26وأنا لا أحسب نفسي أقوي من الذين سقطوا..
4- للهروب من المديح سواء مديح الناس أو مديح نفسك لك
انظر إلي المستويات التي هي أعلي منك بكثير فتصغر نفسك في عينيك.
إنك إن نظرت إلي الخطاة والضعفاء في مستواهم الروحي أو إلي من هم أقل منك فضيلة وبرا ربما بالمقارنة تجد أنكبار في عيني نفسكأي32:1وإن نظرت إلي من هم أقل منك فهما وعلما ربما أيضا بالمقارنة تصبححكيما في عيني نفسكأم3:7.
إن أولاد الله صاروا متواضعين لأنهم كانوا باستمرار ينظرون إلي الكمال المطلوب منهم حسب قول الربكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كاملمت5:48وأيضا إلي قول الربكونوا قديسين لأني أنا قدوس1بط1:16.
فبنظرتهم إلي القداسة والكمال كانوا يرون أنهمفي الموازين إلي فوقمز62:9فيقول كل منهم لنفسهوزنت بالموازين فوجدت ناقصادا5:27.
كانوا يصلون إلي درجات عظيمة في الصوم والصلاة والنسك وإنكار الذات وفي كل فضيلة يجاهدون للوصول إليها وعلي الرغم من كل ذلك كانوا في نظر أنفسهم ضعفاء ومساكين لأن المستوي العالي الذي كانوا يتطلعون إليه مازال بعيدا عنهم وهناك درجات أعلي لم يصلوا إليها!
إذا مدحتك نفسك علي فضيلة معينة قد وصلت إليها فتذكر ما قد وصل إليه الآباء في هذه الفضيلة بالذات حينئذ تدرك أنك لاشيء.
إذا مدحتك نفسك مثلا لمواظبتك علي صلاة الأجبية تذكر أنك تصلي بعض المزامير وآباء كانوا يصلون كل المزامير ومنهم من كان يقضي الليل كله في الصلاة ومن كان يمارس الصلاة الدائمة ومن كان يصلب فكره في الصلاة حتي ما يخطر عليه فكر آخر كالتدريب الذي تدرب عليه القديس مكاريوس الإسكندراني وتذكر أيضا الصلاة بخشوع والصلاة بدموع والصلاة بحرارة وحب وإيمان..حينئذ تجد أنك مجرد مبتديء في عمل الصلاة وربما لم تصل بعد إلي درجة مبتديء!
وبالمثل قارن نفسك بالدرجات العليا لباقي الفضائل..
فهل يحاربك المجد الباطل لأنك مدقق في دفع العشور؟فهل أنت أيضا تدفع البكور؟وإن كنت كذلك فاعرف أن المسيحية ارتفعت فوق هذا المبدأ في العطاء إذ قال الربمن سألك فأعطهمت5:42وقال أيضاإن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع كل مالك واعط الفقراء,فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعنيمت19:21وإن وصلت إلي هذا فأمامك قصة لأحد القديسين كان متناهيا في عمل الرحمة:فباع كل ما يملك وأعطي الفقراء وإذ لم يبق له شيء ليعطيه باع نفسه عبدا وأعطي ثمن نفسه للفقراء!أقول لك هذا لا لتفعل مثله فهذا غير ممكن الآن وإنما لكي تتضع...
5-لكي تهرب من الكرامة اعرف المعني الحقيقي للمتكأ الأخير.
فليس المتكأ الأخير أن تجلس في المكان الأخير فهناك من يتصرف هكذا لكي يقال عنه إنه متضع وقد يتخذ المتكأ الأخير من الظاهر بينما محبة المجد الباطل تقتله من الداخل فالمتكأ الأخير حقا هو أن تشعر في أعماقك أنك حقا في المتكأ الأخير من جهة المكانة وليس من جهة المكان قال أحد الرهبان للقديس تيموثاوس يا أبي إني أري فكري مع الله دائمافأجابه القديسالأفضل لك يا ابني:أن تري نفسك تحت كل الخليقة..
قيل عن اثنين من الرهبان الشبان إنهما دخلا إلي مائدة الدير وكانت في ذلك الحين مقسمة إلي موائد للشيوخ وأخري للشبان فدعا الشيوخ واحدا منهما أن يجلس معهم فجلس وأما الآخر فذهب إلي مائدة الشبان وعند الانصراف قال هذا الأخير لزميلهكيف تجرأت-وأنت شاب-أن تجلس مع الشيوخ؟فأجابه إنني لو جلست علي مائدة الشبان ربما كانوا يقدمونني علي أنفسهم في كل شيء لأنني أقدم منهم ولكنني عندما جلست علي مائدة الشيوخ كنت أشعر بضآلتي وعدم استحقاقي وبأني لا استحق الكلام وجلست في استحياء مطرقا كل الوقت وكنت في المتكأ الأخير.
إذن فحتي لو أجلسك الناس في المتكأ الأول قل لنفسك:إن كل هؤلاء الناس أفضل مني إن وقفت مثلا تدرس للأطفال في مدارس الأحد اعتبر أنهم ملائكة أفضل منك واطلب من الله أن تكون في بساطتهم ونقاوتهم وكرامتهم عند الله..كان أحد مدرسي مدارس الأحد إذا وقع في مشكلة يطلب من أطفال فصله أن يصلوا من أجله في ضيقته.وكان يقول:إنني جربت صلواتهم في مشاكل حياتي وكنت أشعر أنها قوية ولها مفعول كبير أكثر من صلواتي الخاصة.
6- وإن أردت الهروب من محبة المديح اهرب من محبة الرؤي والمعجزات.
لئلا يعرف الشياطين عنك هذا فيضلوك برؤي كاذبة من عندهم ويقول الرسولإن الشيطان نفسه يغير شكله إلي شبه ملاك نور2كو11:14ظهر الشيطان مرة لأحد القديسين وقال لهأنا جبرائيل الملاك وقد أرسلني الله إليكفرد عليه القديسلعلك أرسلت إلي غيري وأخطأت الطريقأما أنا فإني إنسان خاطيء لا أستحق أن يظهر لي ملاك..قال مار إسحق إن الذي يري خطاياه أفضل ممن يري ملائكة.
وفي إحدي المرات سألوا القديس الأنبا باخوميوسقل لنا عن منظر حسن قد رأيتهفأجابهم من كان مثلي خاطئا لايعطي مناظر أما إن أردتم منظرا حسنا ترونه فانظروا إلي شخص وديع متواضع فإنكم تبصرون الله فيه وعن أفضل من هذا المنظر لاتبحثوا.
حقا إن الرؤي لاتخلص نفسك في اليوم الأخير فلا تطلبها إنما معرفتك بخطاياك فهي التي تقودك إلي التوبة وخلاص نفسك.
يدخل في هذا المجال أيضا من يسعون إلي التكلم بألسنة لا لتبشر الغرباء عن لغتهم إنما بسبب الادعاء أنهم قد وصلوا إلي الملء!!والبعض منهم يقول لغيره:تعال لكي أمنحك الروح والملء فتتكلم بألسنة...!!
7-إن أردت أن تهرب من المديح ينبغي أن تخفي أعمالك الفاضلة عن الناس.
لأنك إن كنت تعمل الخير من أجل الله وليس من أجل كرامة من الناس فماذا يهمك إن كان الناس يرون هذا الخير منك أو لا يرونه بل إن إظهار فضائلك لهم قد يفقدك أجرك عند الله إذ تكون قد استوفيت خيراتك علي الأرضمت6.
في احدي المرات تقابل بعض رهبان شيهيت مع الأم سارة.. وكشفوا لها أفكارهم فقالت لهم:بالحقيقة إنكم أسقيطيون.. الذي لكم من الفضائل تخفونه وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلي أنفسكم.
وفي مرة أخري كان يعيش في برية شيهيت راهب سوري الأصل..هذا جاء إلي القديس مكاريوس الكبير وقال لهلي سؤال يا أبي:عندما كنت في سورية كنت أستطيع أن أصوم كثيرا وأطوي الأيام صوما أما الآن في مصر فلا أستطيع أن أكمل اليوم صوما فلماذا؟.
وحيث أن الأديرة في سورية كانت في المدن في وسط الناس لذلك رد عليه القديس مكاريوس قائلا:لقد كنت تطوي الأيام صوما لأنك كنت تتغذي علي المجد الباطل الذي هو مديح الناس لك أثناء الصوم والانقطاع عن الطعام.أما في البرية فلا يراك أحد ولذلك تجوع بسرعة!لذلك قال القديسيون:إن الفضائل إذا عرفت تبيد وتنتهي وبسبب هذا كانوا يخفون فضائلهم ومعرفتهم وحكمتهم أما إن أراد الله أن يظهر فضائلك وحكمتك فلتكن مشيئته ولكن لايكن ذلك منك أنت.. فحاذر أن تفتخر بنفسك أو أن تجلب لنفسك صيتا حسنا.
و المجد لله دائماً