لليان تراشر... أم الأيتام المصريين
وطنى 21/11/2009م إعداد:مريم مسعد مئات الأطفال ينادونها ماما,فهي من عمرت قلوبهم بالحب والعطف والحنان,تاركة خلفها بلادها وأسرتها وحياتها الكريمة متجهة إلي جرحي المجتمع المصري لتنتشل صرعاه الذين يقعون في معركة الحياة.
هذه هي لليان تراشر التي نشأت بولاية فلوريدا الأمريكية في جو مشبع بالحب والإخلاص,وعائلة تغمرها السعادة والسلام.وكانت الطفلة لليان مواظبة علي حضور الاجتماعات الدينية والتي أثرت في توجهاتها واتساع مداركها وثقافتها.
وكان سؤال يتردد بداخلها حول الأفارقة وكيف يعيشون في ظل تدني الأحوال التي طالما كان المجتمع يتحدث عنها...
وبعد تخرجها في المدرسة بدأت في خدمة الأطفال المحرومين وعملت بملجأ للأيتام بكارولينا,ومثل كل الفتيات تقدم إليها أحد الشبان لخطبتها ولاقي قبولا لدي أسرتها,وانهمكت لليان في إعداد جهاز العرس غير أن صراعا عنيفا كان يمزقها بين مستقبلها السعيد في البيت الهادئ وبين المستقبل المجهول الذي تتمني فيه خدمة الأطفال في أفريقيا.
وما لبثت أن اختارت خوض التجربة والسفر لمساعدة الأطفال المحرومين الذين سمعت عنهم.
وبالفعل سافرت إلي مدينة أسيوط في أكتوبر 1910,وبدأت تتعلم اللغة العربية وأجادتها في وقت قصير.
تجولت في الشوارع ورأت الأطفال مهملين,يقضي عليهم المرض,فعزمت علي أن تكرس حياتها لخدمة الأطفال المصريين,وبعد زيارتها لسيدة مريضة فوجئت بأنها ماتت تاركة طفلها الرضيع,فأخذته لليان واعتنت به,غير أن المرسلات المقيمة معهن ضاقوا من صراخ الطفل,فتركت لليان منزل المرسلات واستأجرت بيتا وأصبح هذا البيت هو النواة الحقيقية لملجأ الأيتام والمحرومين.وذهبت تتجول في القري المجاورة لأسيوط تعرض خدمتها,وهوجمت في البداية لكونها سيدة أمريكية تعتني بأطفال مصريين...وبعد جهاد مرير ووقت طويل أدرك الناس غايتها النبيلة فتعاون معها المجتمع وأقبل الأيتام عليها,وبدأت تظهر متاعب في تدبير المال,فأخذت تجول في العاصمة وتبيت في منازل العمد متجاهلة نظرات القرويين لكونها فتاة سافرة تسير في البلاد بمفردها,وبعد أن اندلعت الثورة المصرية ونادي المصريون بالاستقلال,باتت حياة الأجانب في خطر,وكان العامة يفهمون الثورة علي أنها ضد الأجانب حتي لو كانوا يخدمون المصريين. وعندما بلغت الثورة أشدها اضطرتها السلطة العسكرية أن تغادر مدينة أسيوط فبكت وأودعت الأطفال في المعاهد التعليمية ورحلت إلي أمريكا ولم تنس أطفالها,فكانت تجمع المال من المتبرعين وترسله إليهم حتي رجعت إلي مصر تاركة في نفوس أصدقائها وأسرتها أملا جديدا بأن الفتاة التي غابت عنهم أشرقت في أسيوط ومصر والشرق,ولم تفشل كما كان المتوقع بل أصبح اسمها رمزا للخدمة والتضحية.
وتوافد إليها مئات الأطفال المحرومين طلبا لمساعدتها,ورغم تزايد الأعداد ونصائح المقربين لها بالاكتفاء بعدد محدود كانت دائما تردد مقولتها: لا يمكن أن أوصد بابي أمام يتيم أو جائع أو محروم.
وكانت لليان تقضي يومها بالاستيقاظ في الصباح الباكر لإعداد اللبن للأطفال الرضع والفطور لمن هم أكبر سنا ثم تفصيل الملابس وقراءة البريد ثم الكشف بصفة دورية عليهم في مستشفي الأمريكان,وبعد الغداء كانت تقوم بحياكة الملابس التي فصلتها في الصباح.
وطوال اليوم ولليان تباشر سير العمل في دار الأرامل ومدرسة الأولاد والبنات وتستمع لكل شكوي,وحتي الساعة الحادية عشرة مساء كانت لليان تمر علي بيوت المتبرعين لتجمع الدقيق لفطور الصباح.
وكانت العناية الإلهية تشملها دائما,ففي إحدي الضائقات المالية حمل إليها البريد رسالة عنوانها أسيوط-الهند وبها مبلغ ألف ريال...فقد ظن صاحبها أن أسيوط في الهند,ولعناية الله وصلت إلي مكانها الصحيح,وفي أحد الأيام نفدت كمية الدقيق وعند توديعها لإحدي صديقاتها وعلي رصيف المحطة رآها صديق علي ثراء...حياها علي مجهوداتها الرائعة وأعطاها مبلغا كان ينوي إرساله إليها وانفرجت أزمة الدقيق في لحظة.
وزار الملجأ اللورد مكلاي رئيس مجلس الملاجئ في إسكتلندة وبعد زيارته أدخل في قسم الرضع بإسكتلندة ثلاثين رضيعا مقتبسا تلك الفكرة من ملجأ لليان...وقام بوضع مبلغ سبعة آلاف جنيه في البنك لصالح ملجأ لليان.
وعند نشوب الحرب العالمية الثانية ارتفعت الأثمان حتي كاد البيت الذي يأوي الأطفال أن يغطي مصاريفه حتي أن الفتيات لم يكن لديهن لكل واحدة سوي ثوب واحد,وفي تلك الشدائد أرسل إليها وزير أمريكا المفوض رسولا أبلغها أن جمعية الصليب الأحمر الأمريكية أرسلت إليها ملابس وطعاما كانت موجهة لليونان,غير أن اليونان سقطت في أيدي الألمان فقررت الجمعية توجيهها لصالح الأعمال الخيرية ومنها مشروع لليان,وبعد فترة قصيرة صرحت وزارة التموين في مصر بتخصيص خمس وثلاثين بالة من الأقمشة سنويا للملجأ.
وانتهت الحرب بويلاتها وشدائدها وتحول البيت إلي ملجأ وصرح شامخ مفتوح للاجئين الذين كان عددهم في ازدياد مستمر ولم تتخل عنهم لليان يوما,فبعد تربيتهم وانتهاء تعليمهم كانت الفتيات يلتحقن بمدرسة الممرضات ويتعلمن الخياطة والتفصيل وتشرف عليهن معلمات متخصصات...أما الأولاد فيلتحقون بمدرسة الملجأ الابتدائية وكانت تتبع مناهج وزارة المعارف العمومية وزارة التربية والتعليم حاليا ويرسل المجدون منهم إلي المدارس الثانوية وبعدها إلي الجامعة,كما كانوا يتعلمون حرفا كالنجارة والزراعة وغيرها.
كانت لليان أما لهم لا تتركهم حتي بعد الزواج والاستقرار وتظل الصدر الحنون الذي يتسع لهم جميعا بمشاكلهم وهمومهم,فقدمت للمجتمع شبابا وفتيات صالحين...ونظرا لتزايد الأعداد شيدت في الأربعينيات مستشفي للعناية بمرضي الملجأ والقري المجاورة,وتطوع الأطباء للإشراف عليه,فبزغت مؤسسة لليان لتصبح مدرسة ومستشفي ودارا للصغار ودارا للأرامل وبناء للأولاد وبناء للبنات.
وكان يقام كل عام احتفال يتطوع فيه الشباب بالتمثيل والفتيات بالعزف,وفي احتفال عام 1944 قالت لليان:
منذ أربعة وثلاثين عاما تركت بلادي وأنا فتاة صغيرة غير أن كل الأشياء تغيرت,فالبلاد التي حسبتها غريبة أصبحت جزءا مني,وأصبحت جزءا منها,لقد تبنتني مصر كما تبنيت أنا أطفالها,وأصبحت أفراحها أفراحي وآلامها آلامي,وأصبحت أمريكا ذكري جميلة.
هذه قصة الآنسة التي يناديها الألوف ماما..هذه هي الفتاة التي وهبت حياتها وتركت بلادها...هذه هي لليان تراشر أم الأيتام المصريين.
المرجع: كتاب لليان... حزقيال بسطورس