الدكتور نجيب زكي بطرس
بقلم: فايز فرح
الأستاذ الدكتور نجيب زكي بطرس أحد خدام أبي الروحي الكنيسة الذين عاشوا في مخافة الرب حاملين رسالة التنوير الديني ونشر المبادئ المسيحية بين الشباب للقضاء علي أمية الأقباط الدينية. وهو واحد من مجموعة الشباب الذين بدأوا خدمتهم منذ بداية النصف الأول من القرن العشرين وأثمرت ثمارا جيدة مازالت موجودة حتي الآن نشعر بها. كانوا مجموعة من الشباب النشط الذين لعبوا دورا عظيما في النهضة الروحية وفي إقامة مدارس الأحد في كل أرجاء مصر. كان علي رأس هذه المجموعة الشاب نظير جيد قداسة البابا شنودة الثالث الآن وكان منهم أيضا الشاب وهيب عطاالله الأنبا غريغوريوس أسقف الثقافة والبحث العلمي المتنيح والشاب سعد عزيز الأنبا صموئيل أسقف الخدمات الراحل, والشاب ظريف عبدالله القمص بولس بولس وهو أول جامعي يرسم قسيسا وكان مهندسا قبل رسامته, والشاب فؤاد باسيلي القمص بولس باسيلي فيما بعد الشاب يوسف إسكندر الصيدلي القمص متي المسكين فيما بعد أب رهبان دير القديس أنبا مقار ببرية شيهيت وكان أيضا من هذه المجموعة عياد عياد وإبراهيم بشارة.
كان من حظي أن ألتقي بالدكتور نجيب زكي 1971 عندما تزوجت وانتقلت من ميدان العتبة إلي شارع مصر والسودان فكان جاري في المسكن الجديد الدكتور نجيب, وكان لابد أن أزور جاري هذا لأن عيادته التي بجانبي هي عيادة أطفال فكان طبيبا لأطفالي وبعد وقت قليل أصبح طبيبا روحيا لي أيضا وكنا نقضي معا أوقاتا كثيرة في مناقشات عديدة دينية وأدبية وفكرية.
كان الدكتور نجيب يحكي لي عن حياته وتاريخه في تواضع العلماء, ووجدت فيه مادة ثرية حية تصلح للكتابة عنها وعن تاريخها الذي هو جزء مهم من تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
الدكتور نجيب في حياته العملية كان طبيبا للأطفال ناجحا ومشهورا فاقت شهرته كل الأرجاء.
كان الجانب الآخر الذي اكتشفته في جاري الدكتور نجيب هو رسالته الروحية التي عاش طوال حياته يؤديها علي خير ما يرام والتي بدأها وهو صبي في الرابعة عشرة من عمره, إذ أنه ولد في سنة 1915 في أسيوط وتعلم في مدارسها وعرف طريقه لمدارس الأحد وكان نيافة الأنبا مكاريوس مطران أسيوط في ذلك الوقت يفتح أحضانه مرحبا بأبنائه في مدارس الأحد التي كانت نشطة.
انتقلت الأسرة بعد ذلك من أسيوط إلي المنيا بحكم انتقال عمل الوالد, وذهب إلي الكنيسة فلم يجد أي نشاط لها سوي إقامة الصلاة للقداس وحسب, ودفعته خبرته في أسيوط إلي محاولة تأسيس مدارس الأحد في المنيا, ومن الطبيعي أن الطريق لم يكن سهلا بل كانت هناك صعوبات كثيرة, لكن الصبي نجيب ذو الرابعة عشرة من عمره استطاع مع أخيه ميلاد ومجموعة من الشبان تأسيس مدارس الأحد في كنيسة الأمير تادرس, وكنيسة مارجرجس, وكنيسة العذراء, وكان نيافة الأنبا ساويرس متعاونا مع الشباب النشط مما أقام مدارس الأحد فعلا وأقبل عليها الأطفال والشباب, ثم أقاموا مدارس الأحد للبنات أيضا وكان يقسم العمل مع أخيه ميلاد فهو يجمع الأطفال بعد قداس يوم الجمعة ويختار المدرسين لهم, ونجيب يجمع الشباب ويقوم بالوعظ في نفس الوقت, قال لي الدكتور نجيب: كانت الخدمة ناجحة وكنا أحيانا نخرج ليلا علي شاطئ النيل ونجلس في المنتزه نصلي ونرتل بحريتنا بلا رقيب ولا مضايقات حتي في شوارع المنيا.
ظلت خدمة مدارس الأحد في المنيا ناجحة تحت إشراف الطالب نجيب زكي حتي حصل بعد سنتين علي شهادة البكالوريا (الثانوية العامة), وكان الأول علي مدرسة المنيا الثانوية أما جائزته فكانت أربعة جنيهات ذهبية من جلالة ملك مصر.
اضطر نجيب للانتقال إلي القاهرة للالتحاق بكلية الطب, لكنه كان مطمئنا علي نجاح الخدمة في المنيا بعد أن ترك فيها كوادر مدربة وشبابا يؤمن برسالته.
في القاهرة التقت مجموعة من شباب الصعيد الذي مارس الخدمة في مدارس الأحد ومعهم الدكتور نجيب وأخوه ميلاد, وكانت الخدمة تتركز في الكنيسة المرقسية في شارع كلوت بك فقط, وكان يشرف عليها رجل فاضل هو الأرشدياكون حبيب جرجس في هذه الخدمة مدة ثلاث سنوات تحت رعاية كبار لجنة مدارس الأحد, وغبطة البطريرك الأنبا يوأنس بابا الإسكندرية في ذلك الوقت في سنة 1932 وقف الدكتور نجيب الشاب الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عاما فقط أمام الأنبا يوأنس في حفل الخريجين يلقي كلمته التي لفتت الأنظار إليه وكانت الخدمة ناجحة حيث كان الشباب مقبلا عليها لكن المكان - الكنيسة المرقسية بشارع كلوت بك في وسط البلد - كان بعيدا بالنسبة لهم, وكان لمجموعة الشباب لقاء شهري في شبرا في جمعية المحبة التي كان يرأسها الأستاذ يونان نخلة في ذلك الوقت.
ورأت المجموعة أن بعد المكان يمكن أن يؤثر في الخدمة, وبعد دراسة الموقف قرر الجميع تقسيم أنفسهم إلي مجموعات للخدمة, مجموعة ذهبت إلي العباسية للخدمة في الكنيسة البطرسية, ومجموعة أخري ذهبت للجيزة للخدمة هناك, ومجموعة ثالثة ذهبت إلي شبرا حيث الخدمة في كنيسة الأنبا أنطونيوس.
ذهب الدكتور نجيب مع أخيه ميلاد إلي الخدمة في كنيسة الرسولين بطرس وبولس مع المجموعة الأولي سنة 1934 ورحب بهم القمص غبريال إسحق راعي الكنيسة, وبدأت المجموعة تدعو الأطفال والشباب من مختلف المراحل العمرية والدراسية لحضور مدارس الأحد.
وقام بتقسيم الخدمة في الكنيسة البطرسية مع أخيه ميلاد كما كانا يفعلان قبل ذلك في المنيا, نجيب يتولي الوعظ بعد صلاة القداس, والمهندس ميلاد يأخذ الطلبة والمدرسين في حجرة القمص غبريال أو في حديقة الكنيسة لإلقاء الدروس لهم, وكان يستضيف في خدمته شخصيات قبطية مرموقة مثل الأستاذ نظير جيد قداسة البابا شنودة الآن وكان يحضر من شبرا ماشيا علي قدميه ليجتمع بالشباب لساعات طوال كل عشرة أيام تقريبا, كذلك كان يحضر للمساهمة في الخدمة الأستاذ وهيب عطاالله الأنبا غريغوريوس بعد ذلك والأستاذ سعد عزيز الأنبا صموئيل بعد ذلك وغيرهم من شباب الكنيسة المثقف.
تخرج في كلية الطب سنة 1939, ولم يكتف بالخدمة في الكنيسة البطرسية وحسب بل كان يذهب إلي خدمة مدارس الأحد في البحيرة ليلقي بعض الدروس ويلتقي بالخدام ليشجعهم.
من الأعمال الناجحة للأرشيدياكون حبيب جرجس إقامته ناديا لمدارس الأحد في شبرا علي ناصية شارع قطة, كان يجتمع فيه كل خدام مدارس الأحد من مناطق القاهرة كلها, لدراسة مشاكل الخدمة ووضع حلول لها وتبادل الخبرات.
استطاع الدكتور نجيب زكي أن ينهض بالخدمة في كنيسة الرسولين بطرس وبولس, فأقام مدارس أحد للبنات يوم الأحد أيضا بجانب مدارس أحد يوم الجمعة للبنين وأسس اجتماعا للشعب مساء كل يوم أحد.
وتتويجا لجهوده ورسالته السامية في خدمة الكنيسة اختار قداسة البابا كيرلس السادس الدكتور نجيب زكي للإشراف علي مدارس الأحد في كنيستي العذراء والأنبا رويس, والعذراء والأنبا بيشوي, ثم طلب قداسة البابا شنودة الثالث منه الاستمرار في الخدمة والإشراف, وظل الدكتور نجيب في تأدية الرسالة بكل حب وتفان حتي الساعات القليلة قبل رحيله.
هكذا كانت رحلة عطاء الدكتور نجيب زكي, رحلة حب حقيقي لكل ما يقوم به, في عمله كطبيب كان يحب المرضي ويسأل عنهم ويساعدهم وفي الكنيسة كانت خدمته بركة للجميع فهو مؤسس مدارس الأحد في المنيا سنة 1929, ثم مؤسس مدارس الأحد في الكنيسة البطرسية سنة 1932.
صفحات مطوية في حياة الدكتور نجيب زكي
بقلم الدكتور ماجد فهمي
إنه الإنجيل المعاش والسفير في السلاسلمثل بولس الرسول.أعطي أجمل رسائله,رسائل المحبة,في بدء مجلة المحبةأغابي إنه علي مثال السيد قصبة مرضوضة لم يقصف وفتيلة مدخنة لم يطفأ,كان كلامه كلهمصلحا بملح الحكمة النازلة من فوق,من عند أبي الأنوار.
كم من مرةتحنن علي مريض يضمد جراحات نفسه وعقله وقلبه وجسده,كان يعالج المريض مثلما يعالج المرض....وتفوق...كم من مرة كانالسامري الصالح,ويري المسيح في كل مريض....ينقل في سيارته الخاصة مرضاه المصابين بأمراض معدية وخطيرة,كالحمي الشوكية,بسرعة إلي المستشفي لينقذ حياتهم,مخاطرا بحياته وصحته,وكان هؤلاء بمحبته وصلاته وطلباته من أجلهم يشفون ويتعافون,مرضي الطبيب المضحي الباذل المصلي لمرضاه,الذين يعتبرهم جميعا من أفراد عائلته,من أصغرهم إلي أكبرهم,من أغناهم إلي أفقرهم,يعرفهم واحدا واحدا.
لا أنسي اشتراكه في العديد منالكونسولتو,ليس فقط للمرضي الأطفال,أساس تخصصه,ولكن أيضا للبالغين من أفراد العائلة,أو أهالي المرضي أو الأصدقاء والأقارب,في كل مناطق القاهرة.كان رأيه العلمي فيها سديدا وتشخيصاته في الصميم,تثبتها الفحوصات والتحاليل...تعلمت منها وأخذت بها,فيما بعد,وطبقتها علي أمثال حالتهم عندما صرت طبيبا...كم من مريض أسعفه وأنقذ حياتهبحقنة,من السرنجة الزجاجية المغلية,بدواء يحتفظ به في حقيبته الطبية,التي لم تكن تفارقه,لذلك كان الأرشيدياكون عياد عياد,صديق العائلة يمتدحه ويمازحه قائلا:أنت فعلا يا نجيبذكي ونجيب.
كان يحلو لي سماعه عندما يتحدث بشغف عن اكتشافه قانونا إكلينيكيا وإحصائيا عن وراثة مرض السكر,واحتمالات حدوثه لدي أطفال الأهالي المصابين به,قدمه في المستشفيات الجامعية بلندن وكلياتها الطبية,بين إعجاب الأساتذة وتصفيق الأطباء,وسجل البحث ونتائجه كوسام شرف علي صدره إذ لم يتمكن أحد من قبله,ولن يتمكن أحد من بعده من تقديم مثله,بل بنيت أبحاث علمية كثيرة,علي أساس نتائجة كمرجع لها.
كان أول طبيب أطفال مصري,تبعه الكثيرون بعد ذلك,يتخصص في سكر الأطفال أي النمط الأول للسكري سنة1967,بعد أن أرسلته منظمة الصحة العالمية كأول مبعوث دولي لها من مصر إلي إنجلترا وألمانيا والدنمارك,للتخصص في هذا المجال,الذي بدأ في دراسته الكثيرون من بعده,مستلهمين من خطواته وتشجيعاته ونتائج أبحاثه ودراساته.
أما من جهة أخري,فكم من مرة سعدت بأن يصطحبني معه لحضور المحاضرات الكبري(Grand Lectures) في معهد الدراسات القبطية,والتي كان يلقيها في ذلك الوقت كبار أساتذة تاريخ وآثار مصر القبطية,أمثال الدكتور مراد كامل وأشرف بعد ذلك بسنوات لصلة القرابة والصداقة,علي نقل مكتبة هذا العالم الضخمة بعد وفاته,من منزله بالإسعاف إلي مقرها في أرض الأنبا رويس,في مبني خاص بها,بعد أن كان يطمع فيها الكثيرون وكان ذلك مع خاله المستشار عبد الشهيد يسي,زوج أخت الدكتور مراد.
علمنا حياة التسليم عندما كان يعظنا في اجتماع الشباب بالأنبا رويس,لكني نقتدي بمثال أبينا إبراهيم,أبي الآباء.كانت مواعظ لن أنساها ما حييت:مختصرة,موجزة واضحة,مكثفة,مشبعة وملهمة...ولا تنسي,تترك بصمة واضحة في قلب متلقيها.وعلي مثالالراعي الصالح ,خدمالقطيع الصغير الذي أودعه الرب بين يديه...شباب التربية الكنيسة,أولا في الكنيسة البطرسية,ثم في كنيسة العذراء بالأنبا رويس,وبعدها العذراء والأنبا بيشوي بالكاتدرائية,ذلك بعد أن ترك أوائل خدمته من تأسيس للخدمة,مع أخيه ميلاد,في أسيوط,في ثلاثينيات القرن الماضي,في عهد البابا مكاريوس الثالث,مطران أسيوط آنذاك,والذي شجعهما ودعمها,حتي لقبهما الأهالي ببطرس وبولس في ذلك الوقت,ثم في المنيا,وبعد ذلك في القاهرة بكنيسة مارمرقس بمصر الجديدة أيام المتنيح القمص إبراهيم لوقا,ثم في البطرسية أيام القمص غبريال,ودير الملاك البحري أيضا,كما شجع بدايات مدارس التربية الكنسية في مهمشة والشرابية.
سلم شعلةالإيمان العامل بالمحبة...المحبة القوية كالموت...لأجيال بعد أجيال,يخدمها,حتي انتهت بخدمته رئيسا للجنة كنيسة السيدة العذراء والأنبا بيشوي بالكاتدرائية المرقصية بالعباسية. خادما وقائدا متميزا
نيافة الأنبا موسي أسقف عام الشباب
كان الدكتور نجيب زكي قائدا عجيبا في محبته, واتضاعه, وحكمته, تتلمذنا عليه منذ الصغر, فأحببناه كلنا, إذ أحب الجميع محبة روحية خالصة, يتحرك بيننا في وداعة فريدة, وابتسامة صادقة نابعة من قلبه المحب وروحه البسيطة. وقديما قال الآباء الإنسان المتواضع, لا تبرح الابتسامة شفتيه, وبالحق, كان الدكتور نجيب نموذجا للمسيحي الحقيقي, والخادم الأمين, والقائد الحكيم.
ومع أنه كان مسئولا عن الخدمة, وأمينا لها, إلا أنه كان يشعرنا بأنه يحمل الكل في قلبه وحضنه, بوداعة آسرة, وأدب جم ولسان يقطر عطرا.
وكان يتسم بالهدوء العجيب, والصوت الخفيض, والحكمة السمائية, النازلة من فوق.
كان واحدا من الرعيل الأول, الذي قاد حركة التربية الكنسية بأمانة ونجاح, وكل رفاقه في الخدمة, صاروا قيادات كنسية عليا, أما هو فبقي خلف الصفوف, يربي أجيالا من الخدام, صاروا - فيما بعد - أساقفة وكهنة ومسئولي خدمة. إنه البذرة الحية, التي اختفت تحت أرض التواضع, فأثمرت ثمارا كثيرة, لمجد المسيح وامتداد ملكوته في قلوب الكثيرين.
أعرف محبة قداسة البابا شنودة الثالث له, وأعرف مدي تقدير قداسته لحكمته ومحبته ووداعته, ولهذا اختاره رئيسا لمجلس كنيسة الأنبا رويس, حتي آخر رحلة حياته علي الأرض.
وأعرف مدي محبة أحبار الكنيسة وكهنتها ورهبانها له, وجموع الخدام والخادمات الذين تتلمذوا علي يديه, ناهلين من وداعته ومحبته, وصدق مسيحيته وغزارة عطائه.
وأعرف مدي وفاء منطقة الأنبا رويس لسيرته العطرة, فقد خدم في الكنيسة البطرسية وكنيسة الأنبا رويس, بمثالية جميلة, يحتذي بها.
لذلك أثق أنه يتكلل الآن بأكاليل كثيرة:
1- إكليل الفرح: إذ سمع الصوت القائل: ادخل إلي فرح سيدك, حيث المكان الذي هرب منه الحزن والكآبة والتنهد, في نور القديسين.
2- إكليل القداسة: التي عاش بها, فأصبح الآن يري الله, ويملك معه, ويحيا في فردوسه.
3- إكليل الشركة: مع الملائكة والقديسين والقديسات, وفوق رأس الكل أم النور شفيعته وشفيعتنا المحبوبة.
4- إكليل الخلود: حيث وعد المسيح بالأبدية السعيدة والمجد الدائم.
نم هادئا أستاذنا الحبيب, واذكرنا أمام عرش النعمة.