- الأصحاح الثاني – داود يملك على يهوذا
لقد أيقن داود أنه هو الملك المختار من قبل الرب، لكنه استشار الرب أولاً إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا.
وبعد سؤال الرب صعد داود إلى حبرون حيث مُسح ملكاً على بيت يهوذا. لم ينس داود المعروف الذي صنعه رجال يابيش جلعاد مع شاول بعد موته. أقام أبنير أيشبوشث بن شاول ملكاً على جلعاد والأشيريين ويزرعيل وافرايم وبنيامين وكل اسرائيل. بدئ أبنير بالحرب ضد رجال داود حيث غلبه رجال داود؛ عاد فطلب أبنير أن تتوقف هذه الحرب الأهلية فقبل الطرفان إلى حين.
١ - مسح داود ملكاً على يهوذا ١-٤
٢ - داود يمتدح أهل يابيش ٥-٧
٣ - أبنير يقيم أيشبوشث ملكاً ٨-١١
٤ - أبنير يثير حرباً أهلية ١٢-١٧
٥ - أبنير يقتل عسائيل ١٨-٢٣
٦ - سعي يوآب وراء أبنير ٢٤-٣٢
١ – مسح داود ملكاً على يهوذا
مات شاول ويوناثان، وكانت الخلافة لايشبوشث بن شاول. اسمه الأصلي "أشبعل" (١أي ٣٣:٨)، أي "رجل البعل" أو "الرجل ذو سيادة". ولما كانت كلمة "بعل" قد تخصصت لإله الفينيقيين لذا تغير اسمه إلى أيشبوشث لتعني "رجل الخزي" إذ كان ضعيفاً غير قادر على العمل، يحركه أبنير رئيس جيش شاول كيفما يريد.
أما داود الذي سبق فسحه صموئيل ملكاً سراً وسط أخوته (١صم ١٦)، فكان عند موت شاول ويوناثان في صقلغ في أرض الفلسطينيين، وقد خلا له الجو إلى حد كبير ليستلم العرش. أما هو فبحكمة واتزان لم يتسرع طالباً الحكم وإنما رأى أنه لا داعي لبقائه خارج وطنه بعد موت شاول الذي كان يطلب نفسه. لقد شعر بحنين شديد نحو خدمة شعب الله، لذا سئل الرب إن كان يصعد إلى إحدى مدن يهوذا، أي وسط سبطه الذين كانوا بلا شك يميلون إليه أكثر من غيرهم. سإل الرب خلال الأوريم الذي أحضره أبياثار الكاهن معه.
بحسب الفكر البشري فإن انطلاق داود وأسرته ورجاله وأسرهم إلى يهوذا أمر طبيعي بعد موت شاول لايحتاج إلى تفكير ولا إلى صلاة أو طلب مشورة إلهية، لكن داود – كرجل الله – يدرك أهمية طلب مشورة الله ليس فقط وقت الضيق أو حالة الارتباك والغموض، وإنما حتى في لحظات الفرج وحين يكون الطريق واضحاً. الاتكاء على صدر الرب وطلب مشورته من سمات أولاد الله المرتبطين بأبيهم السماوي خلال دالة الحب العميق والشركة الدائمة معه.
جاءت الإجابة الإلهية بالإيجاب، أي يصعد إلى يهوذا، وقد وجهه الرب إلى "حبرون" من أعظم مدن يهوذا المقامة بين الجبال كحصون طبيعية.
"حبرون" معناها "اقتران" ، "صداقة"، "اتحاد"، "رباط" الخ ... دُعيت أصلاً "قرية أربع" (يش ٧:٢٠)، تدعى حاليا مدينة "الخليل" إذ سكن ابراهيم خليل الله بجوارها عند بلوطات ممرا (تك ١٨:١٣؛ ٢٧:٣٥)، وهناك ماتت زوجته سارة ودفنت، ودفن هو أيضاً فيها ...
صعد داود وامرأتاه ورجاله بعائلاتهم ليسكنوا حبرون والمدن التابعة لها، وهناك جاءه رجال يهوذا ومسحوه ملكاً علانية.
إن كانت "حبرون" تعني "اقترانا" فإنه ما كان يمكن لداود أن يُمسح ملكاً ما لم يصعد هو وأسرته ورجاله إليها ليأتيه رجال يهوذا هناك. أقول إننا لن ننعم بالمسحة المقدسة لنحسب "ملوكاً وكهنة" (رؤ ٦:١؛ ١٠:٥) مالم ننعم بالاتحاد مع ربنا يسوع "ملك الملوك"، نقدم حياتنا كلها: النفس مع الجسد بكل إمكانياتهما وقدراتهما ومواهبهما ... لننعم بشركة مع الله في ابنه يسوع المسيح، فنملك معه.
يقارن يوسابيوس القيصري بين مسحاء العهد القديم من كهنة وملوك وأنبياء وبين السيد المسيح نفسه موضحاً أن ماناله رجال العهد القديم كان رمزاً فكانوا عاجزين عن أن يقيموا من أتباعهم مسحاء، إما السيد المسيح فهو وحده الذي دُعى اتباعه "مسيحيين"، لأنهم صاروا فيه مسحاء: ملوكاً وكهنةس.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم . أنه في العهد القديم كان الروح القدس يهب مسحة للبعض فيقيم ملوكاً أوكهنة أو أنبياء، أما في العهد الجديد – ففي المسيح يسوع – نلنا جميعا مسحة ليكون كل واحد منا ملكاً وكاهناً ونبياً، ملكاً من حيث تنعمنا بالملكوت، وكهنة إذ نقدم أجسادنا ذبيحة (رو ١:١٢)، وأنبياء إذ يعلن لنا ما لم تره عين وما لم تسمع بي أذن (١كو ٩:٢).
يوضح القديس أمبروسيوس أن طالب العماد يتمتع خلال المسحة بكهنوت روحي وملكوت روحي.
هنا يجب التمييز بين الملكوت الروحي والملكوت التدبيري الزمني، لذا نخضع للرؤساء والملوك، كما يجب التمييز بين الكهنوت الذي يُوهَب للعمل السرائري الرعوي والكهنوت العلماني الذي يوُهَب لجمعيع المؤمنين .
يرى البعض أن في مسح داود داود ملكاً على بيت يهوذا (٢صم ٤:٢) بواسطة رجال يهوذا كشفاً لنقطة ضعف اتسم بها سبط يهوذا إلا وهو ميله نحو الانعزالية والانفراد عن بقية الأسباط مما سبب متاعب كثيرة فيما بعد وانقسامات في الشعب، بل وانقسمت المملكة إلى اثنين: مملكة اسرائيل (١٠ أسباط) ومملكة يهوذا (يهوذا وبنيامين) إلى أيام السبي.
هذا ويُلاحظ أن داود مُسح ملكاً ثلاث مرات:
أ. سراً في بيت أبيه (١ صم ١٣:١٦).
ب. مسحه على بيت يهوذا ْ٢ صم ٤:٢).
ج. مسحه على كل اسرائيل (٢ صم ٣:٥).
ما حدث مع داود يرمز لما تم للسيد المسيح بكونه ملك الملوك، إذ مرّ ملكوته بمراحل ثلاث:
د. منذ الأزل هو الإبن الوحيد الجنس، ملك الملوك (١تي ١٥:٦؛ رؤ ١٤:١٧؛ ١٩:١٦).
ه. ملك خلال الرمز والظل على رجال العهد القديم كما على بيت يهوذا (مت ٥:٢١).
و. ملك ولا زال يملك على كنيستة "اسرائيل الله" الممتدة من أقصى الأرض إلى أقصاها، إذ قيل "للرب الأرض وملؤها" (١كو ٢٦:١٠؛ مز ١:٢٤).
٢ – داود يمتدح أهل يابيش
أول عمل قام به داود بعد مسحه ملكاً على بيت يهوذا هو اهتمامه بمن قاموا بدفن شاول ويوناثان. لقد عرف أنهم أهل بيت يابيش جلعاد فأرسل إليهم يمتدحهم قائلا لهم:
"مباركون أنتم في الرب ...
والآن ليصنع الرب معكم إحساناً وحقاً،
وأنا أيضاً أفعل معكم هذا الخير ...
والآن فلتتشدد أيديكم وكونوا ذوي بأس، لأنه قد مات سيدكم شاول وإياي مسح بيت يهوذا ملكاً عليكم" (٢صم ٢: ٥-٧).
هذا التصرف من جانب داود كبكر أعماله الملوكية يستحق الدراسة والاهتمام:
ز. بدأ عمله الملوكي بتقديم البركة: "مباركون أنتم من الرب"، فإنه ما أجمل أن يبدأ الإنسان حياته الإيمانية (الملوكية) بالكلمات العذبة وتشجيع الغير عوض السلبيات والهجوم.
ح. لم يقف عمله عند المديح، ولا عند طلب المكافأة لهم من قبل الرب، وإنما أن يقدم هو أيضاً مكافأة من جانبه.
أ. أدرك داود أمانتهم وإخلاصهم لشاول فاشتاق أن يستخدم ذات طاقتهم لبنيان مملكته. القائد الناجح هو الذي لا يمركز العمل فيه بل يعرف كيف يستخدم طاقات الكل فيقيم صفاً آخر.
٣ – أبنير يقيم أيشبوشث ملكا
أقام الله داود ملكاً حأث مسحه بيت يهوذا ليقيم في حبرون سبع سنوات ونصف (٢صم ١١:٢). بعدها ملكاً على جميع الأسباط. من الجانب الآخر انشغل أبنير رئيس جيش شاول في استرجاع بعض المدن التي فُقدت في معركة جلبوع؛ صار يجاهد لمدة خمس سنوات ونصف بعدها أقام إيشبوشث بن شاول ملكاً على اسرائيل (ما عدا سبط يهوذا)، وعبر به إلى محنايم كعاصمة للملكة. كان إيشبوشث إبن أربعين عاماً حين ملك وبقى ملكاً لمدة عامين في متاعب مستمرة.
كان أبنير يعلم ضعف شخصية إيشبوشث الذي لم يشترك في معركة جلبوع مع أبيه وأخوته؛ أو ربما هرب في ساعة الخطر من أرض المعركة. لكن أبنير أقامه ملكاً ليكون هو الحاكم العملي والتنفيذي؛ خاصة أنه ابن عم شاول (١صم ١٥:١٤)، يخاف من داود لئلا يطرده من منصبه كرئيس جيش.
عبر بإيشبوشث إلى محنايم كعاصمة. اسمها يعني "معسكرين" أو "محلتين" ، دعاها يعقوب هكذا. وقد جاءت على حدود تخم جاد ومنسي، تنقسم إلى حيين أحدهما لجاد والآخر لمنسي. وقد أعطى جاد قسمه لبني مراري فصارت مدينة ملجأ (يش ٣٨:٢١، ١أي ٨:٦). تقع شرق الأردن وشمال نهر يبوق. يرى البعض أنها كانت "خربة محنة" تبعد حوالي ميلين ونصف ميل شمال عجلون، وير البعض أنها "تلال ذهب".
٤ – أبنير يثير حرباً أهلية
بقي داود أميناً ومخلصاً لشاول ويوناثان، لم يفكر قط في اغتصاب العرش رغم مسحه ملكاً مرتين؛ مكتفياً أن يعمل وسط سبطه يهوذا، لكن أبنير إبن عم شاول أراد أن يخضع يهوذا لإيشبوشث فخرج ومعه رجال إيشبوشث من محنايم إلى جبعون، واضطر يوآب وعبيد داود أن يخرجوا أيضاً دون داود، والتقى الطرفان على بركة جبعون كل على جانب مقابل الآخر، تبعد حوالي خمسة أميال ونصف شمال أورشليم [جبعون تدعى حالياً قرية الجيب].
يبدو أن رجال كل طرف من الطرفين لم يستريحوا لمقاتلة إخوتهم ... ولو ترك الأمر هكذا لرجع الطرفان كما قال يوآب فيما بعد لأبنير (١صم ١٣:٢) ولم يتأهبوا للقتال. أراد أبنير أن يلهب الجو فطلب أن يتقاتل بعض الغلمان. قام ١٢ غلاماً من كل طرف، فأمسك كل واحد برأس صاحبه وضرب سيفه في جنب صاحبه وسقط الأربعة وعشرون غلاماً، ودعي هذا الموضع "حلقث هصوريم" أي "صقل السيوف".
أثار هذا المنظر الطرفين فقام الكل يتقاتلون، اونكسر أبنير ورجاله أمام عبيد داود.
٥ – أبنير يقتل عسائيل
هُزم أبنير ورجاله، فهرب، لكن عسائيل أراد أن يلحق به ويقتله، وكان رئيساً لأحدى فرق الجيش، خفيف الرجلين كالظبي لكنه لم يكن قوياً في الحرب كأخيه يوآب ولا كأبنير.
كلمة "عسائيل" معناها "الله عمل" . وهو ابن صروية أخت داود؛ أخو يوآب وايبشاي.
جرى وراء أبنير متكلاً على خفض رجليه وسرعته، وعلى قرابته لداود ويوآب متجاهلاً قلة خبرته في الحرب بانسبة لخصمه أبنير. ربما أخذه الحماس بعدما غلب أخوه يوآب أبنير، أن يلحق بالأخير ليضع فاصلاً للحرب ويسرع بتسليم خاله داود المُلك.
تطلع أبنير وراءه فشاهد عسائيل؛ لم يخشه إنما خشى خطورة الموقف. لقد أدرك أنه سيغلب عسائيل ويقتله لكن أخاه يوآب لن يهدأ حتى أنتقم لأخيه بقتل أبنير، وعندئذ يتحطم إيشبوشث وتنتقل الملكية تماماً من سبط بنيامين إلى يهوذا (داود الملك). التفت أبنير إلى الوراء وطلب من عسائيل أن يترك السعي وراءه ويميل يميناً أو يساراً بغلام ويسلبه كما يريد ولا يجري وراء القائد، لكن عسائيل رفض. كرر أبنير طلبه بل وتحذيره قائلاً: "مل من ورائي، لماذا أضربك إلى الأرض، فكيف أرفع وجهي لدى يوآب أخيك؟". في كبرياء أصرَّ عسائيل أن يلاحقه فضربه أبنير ضربة خفيفة كي لا يقتله، أي ضربة بخلف الرمح، مع ذلك دخل الرمح في بطنه وخرج من خلفه، وسقط ميتاً. إذ كان الجميع يحبونه هو وأخاه يوآب، كان كل من يأتي إلى الموضع الذي سقط فيه يقف.
٦ – سعي يوآب وراء أبنير
سعى يوآب وأبيشاي وراء أبنير لينتقما لأخيهما عسائيل حتى الغروب عندما جاء أبنير إلى تل أمة الذي تجاه جيح.
اجتمع بنو بنيامين الذين كانوا يطلبون نجاح إيشبوشث وقائده أبنير، واستعدوا لمقاومة يوآب. فنادي أبنير يوآب، وقال له: "هل إلى الأبد يأكل السيف؟! ألم تعلم أنها تكون مرارة في الأخير؟! فحتى متى لا تقول للشعب أن يرجعوا من وراء إخوتهم؟َ" (٢صم ٢٦:٢). هكذا شعر أبنير أن القتال لن يتوقف والخراب سيحل بالجميع لذا طلب من يوآب أن يرجع هو ورجاله عن مقاتلة إخوتهم.
أجابه يوآب محملاً مسئولية ما حدث، فإنه لم يتكلم عند بركة جبعون لا تقاتل الأربعة وعشرون غلاماً، وبالتالي لرجع رجال الطرفين كل إلى بيته.
ضرب يوآب البوق وتوقف الحرب، وأحصي القتلى فكانوا ١٩ من عبيد داود وعسائيل، ٣٦٠ من رجال أبنير. هذا العدد يعتبر صغيراً جداً، يكشف أنه لم تجتمع أعداد ضخمة من الجانبين للحرب، وأن الشعب لم يحب مقاتلة بعضهم البعضص. أما قبول يوآب وقف الحرب بالرغم من قتل أخيه، إنما لأنه يدرك ما في قلب خاله داود الملك، إنه لا يسعى ليملك بمقاتلة إخوته، إنما ينتظر عمل الله الهادئ.
دفن القتلى في أرض المعركة، أما عسائيل فدفن في بيت لحم في مقبرة أبيه (٢صم ٣٢:٢).
قاموس الكلمات:-
[size=21]حلقث هصوريم- حقل السيوف.
بزج الرمح- كعب الرمح.
ايشبوشت- رحل العار.
امّه- عظم السند (مثباس،ذراع).
اشوريون- اسم من خطوه.
[/size]